هل يمكن الحديث عن أنغلوبولوس من دون ان تستدرجنا المشاهد التي تفد الى الذاكرة؟ تلك اللقطات التي تستطرد في الاندفاع الى الأمام، باتت علامة من علاماته. لقطات مشبعة بالحنين، حيث ليس الشعر ما ينبعث من دواخلها فقط، بل هناك روحٌ وصدمة مع المكان، يتجمدان أمامنا كجليد غير قابل للانكسار. من هنا، تبدأ التحديقة، تحديقة قامت عليها، كل لقطة من لقطات انغلوبولوس، وهي بدورها لقطات، تبدلت مع الزمن، لتنتقل من كونها سجناً للشخصيات الى كونها حضناً لمشوراها الأزليّ. المساحات الزمنية "الميتة"، الواقعة بين حدثين والتي تُحذَف عادة على طاولة المونتاج، كانت تتحول عند أنغلوبولوس لحظات ننتظرها. الجمال عنده، كان دائم الانبعاث من الضوء والتراب واللحظة المتوهجة. منبعه القلب ولسانه النظرة. نظرة رجل لديه ما يكفي من الوقت ليراقب ويفهم.
مثل السينمائيين الذين تفتك بهم الهواجس، دارت أفلامه في الفلك عينه دائماً. ككل مخرج عظيم، لم يصنع انغلوبولوس الا فيلماً واحداً وحيداً، تنويعات للحنٍ يتيم: فيلم الطرق التي لا نهاية لها، والمقاهي المنكوبة، والساحات الفارغة، والشواطئ الحزينة، والأمطار التي ترمي نقمة السماء على الناس. ودائماً الرمادي، والمزيد من الرمادي، ولا شيء سوى الرمادي. يطلّ بدفئه من خلف البياض. كان انغلوبولوس يملك سرّ اعادة خلق الحياة من جديد، لكن بمعانٍ أخرى، وبتحديقة ذات لعنة شيطانية وبركة آلهية، لا يرقى اليها أيّ سينمائي مسك كاميرا يوماً.
كان انغلوبولوس يتوحد مع ابطاله. يكرر دائماً عبارة فلوبير: "مدام بوفاري هو أنا!". اعتبر الاخراج ولادة ثانية للنص، هذا الشيء المكتوب الذي كان يلتزمه الى حدود معينة، لكن مع ترك باب المخيلة مشرعاً على كل مستجد ومثير يراكمان الاحتمالات الجديدة. بهذا كله، استطاع أن يصنع سينما تعبر الحدود الجغرافية، فبات معروفاً كسينمائي يوناني في الخارج وكسينمائي من العالم عند مواطنيه اليونانيين.
غرقت تحديقته في الحلم البهي الذي رسمه لنفسه، وفي الاحباط الذي اتى به من جده أرسطو ونظرية الأخير القائمة على ان الحزن منبع الخلق. أفلامه مسكونة باليونان. أرضُ التراجيديات والديموقراطية والفلاسفة، لكن ذاكرتها مزدحمة بالاثم والحروب والمجازر. هذا البلد الذي بقي على هامش أوروبا. من هنا تأتي فكرة الحدود في افلامه. الرحيل يقابله لقاء. السفر، المساحات، النفي، الاغتراب، كلها هواجس لها روابط عميقة بسيرته. "طوال عمري، شعرتُ أنني منفي في بلادي"، يقول في إحدى المقابلات. أما عودة الأب الغائب، فصداها عميق في ذاكرته. فمشهد اللقاء بين والده العائد، بعدما كان يُعتقد أنه مات خلال الحرب الأهلية، ووالدته، افضى الى مشاهد كثيرة من هذا النوع في أفلامه: في وسط الشارع، موسيقى ايليني كارايندرو تنبعث فجأة!... مَن غيره أنجز سينما كهذه؟
بقلم الأستاذ : Hauvick Habechian
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق