" أيها الرُهبان، هناك حدان متناقضان يجب أن يبتعد عنهما الذين تخلوا عن حياة الدنيا؛ الأول هو الإنسياق في الملذات وهذا أمرٌ سافل وعقيم، والثاني هو طريق التقشف وإماتة الجسد وهذا أمرٌ مؤلم وعقيم أيضاً. ودون أن أترك لنفسي العنان وراء أي من هذين الطريقين، فقد وجدت بعد تفكير طويل طريقاً وسطاً يفتح العيون ويوقد العقل ويقود للراحة والمعرفة والإشراق والنرفانا. إنه طريق طويل ذو ثمانية مسالك هي : عقل مستقيم، وحزم، وقول، وعمل، وحياة، وجهد، وتفكير وتأمل . "
الألم .. هذا ما أخذ بوذا على عاتقه تعليمه لتلاميذه ومريديه، إنها الفلسفة البوذية الإنسانية التي تقوم على إدراك حقيقة الوجود في كلمة واحدة .. الألم. فالولادة .. ألم، الشيخوخة .. ألم، المرض .. ألم، الإتحاد بما لانحب.. ألم، الإنفصال عما نحب.. ألم، عدم الوصول إلى مانرغب .. ألم.
( 1 )
الربيع ..
" لاتعذّب نفساً "
( الآن، الزهور تتألقُ في رضىً ، الأبواب مفتوحة ٌ في سعة ، السماء تقتربُ من النهر .. كل الأشياء موصولة ٌ هنا ببعضها ، كل ألوان الطبيعة اتحدت متلألأة في جمال يُقارب الكمال .. )
هدوءٌ في قلب العالم، في آخر الدنيا هناك .. حيث الرهبنة والتعبّد للإله السمح، لإله المغفرة، حيث الترفع والزهد .. الخشوع والخضوع لأمرٍ مجهول، لأمر القوة الحاكمة، القابضة على قلب الراهب المملوء باليقين، إنه يتحكم في مصيره بنسيانه، بنسيان وجوده. إنه محدد بحدود لاحدود لها رغم أنه لاحدود له. إنه يفوق زمانه، وبالتالي .. مكانه؛ إذ أن الزمان يثبُ فوق المكان .. مهما كان!
في هذا الجزء البديع من الفيلم .. يُطرحْ معنى أصيل ذو غاية عظيمة ألا وهو؛ أن الفكرة الفلسفية ليست نبتاً شيطانياً في عقل من أبدعها، بل هي نبت ظروف مختلفة عايشها هذا الفيلسوف أو الحكيم في عصره وتأثر بها تماماً. كما أنها أُنتجت لتلائم هذه الظروف وتقدم إجابات على مشكلات حيّة .. نرى ذلك حين كان الصغير يلهو بوضع " حجرٍ صغير " في فم ( السمكة ، الضفدع ، والثعبان ) كان يعتقد أن هذا مُسلٍ، كان يتضاحك مثلما يليقُ بطفلٍ في عُمره أن يفعل .. لم يكُن في باله أن هذا يؤذي، أو حتى ينفع .. فهو لم يفعل مافعل بهدف غاية، ولابغية هدف، ولكن ما إنْ يُترك هذا " اللاهدف " وتلك " اللاغاية " فإنه يُصبح هدفاً وغاية!
ومن هُنا يكون دورُ الأستاذ، وهُنا لاينفع التلقين ولايصح .. إنما هو القياس. أسبابٌ تُفضي إلى نتائج .. هو يُحلل له المشكلة، يكشفُ له عن أبعادها ويُخبره ماذا سيحدث لو ..؟! يضعُ على ظهره حجر، ويُجبره على حمله، ويأبى أن يُزيح هذا الحِمل إلا بعدما يُصحح خطأه، بعدما يخلع ذنبه الذي يُلوّث نفسه من جذوره، يقتلعه ويقذفُ به بعيداً بعيداً .. ويتعهّد ألا يفعل ذلك ثانية، وقبل هذا .. يندم، ويلوم نفسه على مافعل.
( 2 )
الصيف ..
" لا ترغب فيمَ ليس لك "
( شبّ وشاخ مُعلمه .النهرُ رائقٌ كوجهه ، الطبيعة ُ تُعانقُ وجهاً حسناً .. أطلّ عليها في هذا الصباح الباكر، الطبيعة تميل للجمال، لأنها جميلة تنزِعُ للأشياء الجميلة، ولايهواها إلا كل جميل .. )
كان قلبه يُشبه النهر حين يتجمّد، لاحِراك فيه، لاموجة ٌ تُحركه، لاريحٌ تُهيجه، لاتسري عليه سفينة ٌ فتغرق أو تطفو .. إنه هادئٌ كما نعتقد في ذرات الصلب. ولكن حتى الجليد يأتيه فصلٌ فيذوب، فيسيل .. فتطفو فوقه أشياء وتغوص في قلبه أشياء، وكما الجليد كان قلبه . احتاج لشئ ٍ يجعله يذوب، يخترقُ صلبه ويجعل النفاذ إلى عُمقه أيسر .. حسناءُ منحوتة .. شعّت من ملامحها حرارة ٌ تُنبئ بالذوبان، رأى في قسماتها شئٌ لاح له وكان قد أهمله، رُسِم على وجهها الجمال، كُتب على جبينها .. إلهة الجمال. نفذت إلى أعمق أعماقه فاستسلم، تركها تخترقه بكل سهولة، دون رفضٍ أو اعتراض أو حتى استفسار .. تركها تغزو كل نقطة في قلبه فتشيعها نوراً، وتزيدها ألقاً. رأى في الحب غايته .. أثارت بالحب شهوته، فاندفع ولم يُبالِ، كان خالِ الذهن إلا منها، تربعّت في مكان كان يتملكه غيرها من قبل .. أهمل كل شئ ٍ سواها، أحبّها، عشقها، هام بها .. جحد كل شئ ٍ واستيقنها، أعطته الدفء الذي لانت به برودته، وَهَبتهُ الذي غزا جوارحه فأطبق عليها واستحكم.
لم يغضب أستاذه لمّا علِم.. إنها الغريزة، لم يُخطئ فيما ارتكب ولكنه أخطأ حين اعتقد .. حين اعتقد أنه يملك صفة الأستاذية على حياته وأنه بيده قراره ، وأن القرار الذي يمنع كل القرارات الأخرى هو الأصوب .. لم يكُن يعرف أنه أعمى، قرارٌ أعماه عن كل الخيارات الأخرى، لم يُفكر فيما سيحيق به، لم يكُن على دراية بمَ سيجري بعد هذا وإلام سيؤول كل هذا .. كان يُفكر في اللحظة التي عندها يتفوق على الزمن، رغِب في تملّـك شئ ٍ ليس له السُلطان عليه، لايملك القوة للحفاظ عليه، استأثر شيئاً لنفسه لم يملِكه بعد. فالناس كما يقول كونفشيوس .. سواسية ، خيرين بطبيعتهم ، ولكنهم كلما شبّوا اختلف الواحد منهم عن الآخر تدريجياً وِفق مايكتسبون من عادات وأن الطبيبعة البشرية مستقيمة، وإذا ما افتقد الإنسان هذه الإستقامة افتقد معها السعادة.
بمعنى ً آخر حاول أستاذه إيصال هذا إليه .. أخبره أن تلك الرغبة في التملك لاتوهب ولاتُملك، وإنما هي نزوة ٌ عاطفية، غزوة ُ مشاعر ليس إلا .. لن تدرِ وهي تنطفئ، لن تشعر حين تخبو .. وسيكون كل مافات كأنه مافات .. أخبره أن إيقاظ شهوة التملك يوقظ رغبة القتل !
( 3 )
الخريف ..
" كفّر عن خطاياك "
( ويأتي يومٌ تُلوّح فيه السحب ، تمر متلاصقة ً كتنبيه ، الغيوم الضخمة تُظلل أشجاراً بلا ورق ، غصونٌ نحيلة ، تتهيئ لنضارة طويلة .. تحضيرٌ معروف ، وإجراء طبيعي ، روتيني للغاية ، تتأهب فيه الطبيعة .. الخريفُ فصلٌ تتكشف فيه الطبيعة على أصولها ، تتكشفُ لنا فيه دون زينة أو بهاء .. ورغم ذلك نرى فيها الزينة والبهاء ، نكتشف بالضرورة نحن أيضاً أن جمالها جوهري ، الطبيعة تُدلل على أنها جميلة في نظر من يراها ، هي إنعكاسٌ لما في أنفسنا )
الآن، تبدو الأمور واضحة .. الطبيعة تشيخُ أيضاً، في الطبيعة ما يُشبهنا ، غير أن هناك في الطبيعة مايختلف عنّا قليلاً؛ الطبيعة تُرمم نفسها بنفسها. أمّا نحن فنحتاج أحياناً إلى من يُرممنا، ومهما فعلنا يصعب ترميمنا من الخارج، ماحال لايزول، ما أصبح لايعود، مايُمسي ينقضي ..
كان الأستاذ مُحقاً.. إننا نعرف من نكون، ولكننا لايُمكن بأي حال من الأحوال أن نعرف ماذا سنصبح .. أضاف التلميذ لخطاياه العظيمة، خطيئة ٌ أعظم .. قتلَ منْ أحب. ما تحبه هناك آخرون يحبونه أيضاً، أخبرتك ألا ترغب في تملك ما ليس لك، لم تسمع لي .. اتبعّت هواً لم تكن لك حاجة إليه، ماتُريده أكبر وأكثر قيمة مما تحتاجه . أنت احتجتها، لم تكُن تريدها !
( 4 )
الشتاء ..
( تُغلقُ الأبواب ، تنطبقُ السماء على الأرض .. تُنذر الشمس بالرحيل .. تنقبض قلوب الأزهار ، تنفتحُ نافذة ٌ من السماء ، يُطلّ ملكٌ منها على عجوزٍ .. قد حان الرحيل .. تنتهي حياة ولاترجع ولكن مثلها تبدأ ، بكرور الأيام والأعوام تعود الحياة كما يجب أن تعود ، تهدأ بعد توترها ، تسكن بعد تقلبها .. والأهم ، تستمر )
عاد الجليد لصلابته، عاد القلب لجموده .. السماءُ تبتسم في وجه النهر، الأزهار تُعانق برد الشتاء في حرارة، وشيخٌ في الشباب وليس شيخاً يُسمى كل مْن بلغ المشيب، رضيعٌ تحمله أمه إلى الأستاذ الجديد . تُسـَّطّر حياة ٌ جديدة، تبدأ بالخطية ذاتها .. الآن، نُدرك أننا على أعتاب مرحلة جديدة ، الآن ، يتعلم درسٌ جديد .. تعلمه بعد وفاة أستاذه، درسٌ لايُلقن هو الآخر وإنما يُستنبط، يُستكشف ككل دروس الحياة، إنه الآن يوقن أن التجربة هي أصل الحكمة، وأن الحياة تدور بشكل ٍ ساخر، وأن الأيام تُعيد نفسها في شكلٍ و ثوبٍ غير الذي تتبدى به كل مرة.
إذن فأخص خصائص الفلسفة ؛ أنها آراء ومواقف لشخصيات عاشت في الزمان ، لكن هذه الآراء والمواقف الفكرية إمّا تعلو على الزمان والمكان ـ أحياناً ـ ومن ثم فلا تفقد أهميتها عبر العصور أو هي آراء ومواقف ارتبطت بعصرها وعبّرت عن قضاياه ومشكلاته. وفي الحالتين تبدو الفلسفة بعيدة عن أن تكون حوادث أو وقائع ذات زمان ومكان مثل الوقائع والأحداث التاريخية.. لاشئ وقتي اذن ، لاتحتاج لكتاب لتعلم الحكمة، لاتحتاج وثيقة لتتعرف على بنودها .. لن تضطر للجري وراء أوهام عقلٍ يعتقد أنه ينسج الحِكمة بخياله ، يتخيلها ولايعيشها .
و .. ( الربيع )
أمّا حقيقة الألم فهي الظمأ الذي يقود إلى ولادة جديدة، متصلة بالفرح والرغبة، ظمأ للذة، ظمأ للصيرورة، ظمأ للزائل. وإذا ما أردنا أن نتجاوز الألم وأن نتخلص منه، فليس أمامنا إلا أن نتجاوز ذلك الظمأ بإبادة كل اشتهاء إبادة تامة، مما يُفسح المجال أمام هذا الظمأ بأن يتركنا ويمض في سبيله وينصرف عنا، فنتجرد منه!
شاهدته.. فتشبعت ، غمرني بكل مافيه من نُبل المعنى وجمال الصورة وبهاء الحِكمة ، وانسياب الصوت وانسجام التفاصيل التي تُحمل على الصورة . لا أعتقد أنني شاهدتُ شيئاً بمثل هذا الجمال وتلك الروحانية من مدة طويلة .. شاعرية ٌ تُفقد الشعور بإحساس الوجود ، وكأن المُشاهدُ يعبُر للصورة وهي تعبر له فيتلاقيان، فيتعانقان، فيمتزجان ببعضهما حتى كأن الصورة تُصبح صدى ً للمشاهد ، وتُصبح تعبيراً لذاته، عن ذاته .. في ذاته.
الألم .. هذا ما أخذ بوذا على عاتقه تعليمه لتلاميذه ومريديه، إنها الفلسفة البوذية الإنسانية التي تقوم على إدراك حقيقة الوجود في كلمة واحدة .. الألم. فالولادة .. ألم، الشيخوخة .. ألم، المرض .. ألم، الإتحاد بما لانحب.. ألم، الإنفصال عما نحب.. ألم، عدم الوصول إلى مانرغب .. ألم.
( 1 )
الربيع ..
" لاتعذّب نفساً "
( الآن، الزهور تتألقُ في رضىً ، الأبواب مفتوحة ٌ في سعة ، السماء تقتربُ من النهر .. كل الأشياء موصولة ٌ هنا ببعضها ، كل ألوان الطبيعة اتحدت متلألأة في جمال يُقارب الكمال .. )
هدوءٌ في قلب العالم، في آخر الدنيا هناك .. حيث الرهبنة والتعبّد للإله السمح، لإله المغفرة، حيث الترفع والزهد .. الخشوع والخضوع لأمرٍ مجهول، لأمر القوة الحاكمة، القابضة على قلب الراهب المملوء باليقين، إنه يتحكم في مصيره بنسيانه، بنسيان وجوده. إنه محدد بحدود لاحدود لها رغم أنه لاحدود له. إنه يفوق زمانه، وبالتالي .. مكانه؛ إذ أن الزمان يثبُ فوق المكان .. مهما كان!
في هذا الجزء البديع من الفيلم .. يُطرحْ معنى أصيل ذو غاية عظيمة ألا وهو؛ أن الفكرة الفلسفية ليست نبتاً شيطانياً في عقل من أبدعها، بل هي نبت ظروف مختلفة عايشها هذا الفيلسوف أو الحكيم في عصره وتأثر بها تماماً. كما أنها أُنتجت لتلائم هذه الظروف وتقدم إجابات على مشكلات حيّة .. نرى ذلك حين كان الصغير يلهو بوضع " حجرٍ صغير " في فم ( السمكة ، الضفدع ، والثعبان ) كان يعتقد أن هذا مُسلٍ، كان يتضاحك مثلما يليقُ بطفلٍ في عُمره أن يفعل .. لم يكُن في باله أن هذا يؤذي، أو حتى ينفع .. فهو لم يفعل مافعل بهدف غاية، ولابغية هدف، ولكن ما إنْ يُترك هذا " اللاهدف " وتلك " اللاغاية " فإنه يُصبح هدفاً وغاية!
ومن هُنا يكون دورُ الأستاذ، وهُنا لاينفع التلقين ولايصح .. إنما هو القياس. أسبابٌ تُفضي إلى نتائج .. هو يُحلل له المشكلة، يكشفُ له عن أبعادها ويُخبره ماذا سيحدث لو ..؟! يضعُ على ظهره حجر، ويُجبره على حمله، ويأبى أن يُزيح هذا الحِمل إلا بعدما يُصحح خطأه، بعدما يخلع ذنبه الذي يُلوّث نفسه من جذوره، يقتلعه ويقذفُ به بعيداً بعيداً .. ويتعهّد ألا يفعل ذلك ثانية، وقبل هذا .. يندم، ويلوم نفسه على مافعل.
( 2 )
الصيف ..
" لا ترغب فيمَ ليس لك "
( شبّ وشاخ مُعلمه .النهرُ رائقٌ كوجهه ، الطبيعة ُ تُعانقُ وجهاً حسناً .. أطلّ عليها في هذا الصباح الباكر، الطبيعة تميل للجمال، لأنها جميلة تنزِعُ للأشياء الجميلة، ولايهواها إلا كل جميل .. )
كان قلبه يُشبه النهر حين يتجمّد، لاحِراك فيه، لاموجة ٌ تُحركه، لاريحٌ تُهيجه، لاتسري عليه سفينة ٌ فتغرق أو تطفو .. إنه هادئٌ كما نعتقد في ذرات الصلب. ولكن حتى الجليد يأتيه فصلٌ فيذوب، فيسيل .. فتطفو فوقه أشياء وتغوص في قلبه أشياء، وكما الجليد كان قلبه . احتاج لشئ ٍ يجعله يذوب، يخترقُ صلبه ويجعل النفاذ إلى عُمقه أيسر .. حسناءُ منحوتة .. شعّت من ملامحها حرارة ٌ تُنبئ بالذوبان، رأى في قسماتها شئٌ لاح له وكان قد أهمله، رُسِم على وجهها الجمال، كُتب على جبينها .. إلهة الجمال. نفذت إلى أعمق أعماقه فاستسلم، تركها تخترقه بكل سهولة، دون رفضٍ أو اعتراض أو حتى استفسار .. تركها تغزو كل نقطة في قلبه فتشيعها نوراً، وتزيدها ألقاً. رأى في الحب غايته .. أثارت بالحب شهوته، فاندفع ولم يُبالِ، كان خالِ الذهن إلا منها، تربعّت في مكان كان يتملكه غيرها من قبل .. أهمل كل شئ ٍ سواها، أحبّها، عشقها، هام بها .. جحد كل شئ ٍ واستيقنها، أعطته الدفء الذي لانت به برودته، وَهَبتهُ الذي غزا جوارحه فأطبق عليها واستحكم.
لم يغضب أستاذه لمّا علِم.. إنها الغريزة، لم يُخطئ فيما ارتكب ولكنه أخطأ حين اعتقد .. حين اعتقد أنه يملك صفة الأستاذية على حياته وأنه بيده قراره ، وأن القرار الذي يمنع كل القرارات الأخرى هو الأصوب .. لم يكُن يعرف أنه أعمى، قرارٌ أعماه عن كل الخيارات الأخرى، لم يُفكر فيما سيحيق به، لم يكُن على دراية بمَ سيجري بعد هذا وإلام سيؤول كل هذا .. كان يُفكر في اللحظة التي عندها يتفوق على الزمن، رغِب في تملّـك شئ ٍ ليس له السُلطان عليه، لايملك القوة للحفاظ عليه، استأثر شيئاً لنفسه لم يملِكه بعد. فالناس كما يقول كونفشيوس .. سواسية ، خيرين بطبيعتهم ، ولكنهم كلما شبّوا اختلف الواحد منهم عن الآخر تدريجياً وِفق مايكتسبون من عادات وأن الطبيبعة البشرية مستقيمة، وإذا ما افتقد الإنسان هذه الإستقامة افتقد معها السعادة.
بمعنى ً آخر حاول أستاذه إيصال هذا إليه .. أخبره أن تلك الرغبة في التملك لاتوهب ولاتُملك، وإنما هي نزوة ٌ عاطفية، غزوة ُ مشاعر ليس إلا .. لن تدرِ وهي تنطفئ، لن تشعر حين تخبو .. وسيكون كل مافات كأنه مافات .. أخبره أن إيقاظ شهوة التملك يوقظ رغبة القتل !
( 3 )
الخريف ..
" كفّر عن خطاياك "
( ويأتي يومٌ تُلوّح فيه السحب ، تمر متلاصقة ً كتنبيه ، الغيوم الضخمة تُظلل أشجاراً بلا ورق ، غصونٌ نحيلة ، تتهيئ لنضارة طويلة .. تحضيرٌ معروف ، وإجراء طبيعي ، روتيني للغاية ، تتأهب فيه الطبيعة .. الخريفُ فصلٌ تتكشف فيه الطبيعة على أصولها ، تتكشفُ لنا فيه دون زينة أو بهاء .. ورغم ذلك نرى فيها الزينة والبهاء ، نكتشف بالضرورة نحن أيضاً أن جمالها جوهري ، الطبيعة تُدلل على أنها جميلة في نظر من يراها ، هي إنعكاسٌ لما في أنفسنا )
الآن، تبدو الأمور واضحة .. الطبيعة تشيخُ أيضاً، في الطبيعة ما يُشبهنا ، غير أن هناك في الطبيعة مايختلف عنّا قليلاً؛ الطبيعة تُرمم نفسها بنفسها. أمّا نحن فنحتاج أحياناً إلى من يُرممنا، ومهما فعلنا يصعب ترميمنا من الخارج، ماحال لايزول، ما أصبح لايعود، مايُمسي ينقضي ..
كان الأستاذ مُحقاً.. إننا نعرف من نكون، ولكننا لايُمكن بأي حال من الأحوال أن نعرف ماذا سنصبح .. أضاف التلميذ لخطاياه العظيمة، خطيئة ٌ أعظم .. قتلَ منْ أحب. ما تحبه هناك آخرون يحبونه أيضاً، أخبرتك ألا ترغب في تملك ما ليس لك، لم تسمع لي .. اتبعّت هواً لم تكن لك حاجة إليه، ماتُريده أكبر وأكثر قيمة مما تحتاجه . أنت احتجتها، لم تكُن تريدها !
( 4 )
الشتاء ..
( تُغلقُ الأبواب ، تنطبقُ السماء على الأرض .. تُنذر الشمس بالرحيل .. تنقبض قلوب الأزهار ، تنفتحُ نافذة ٌ من السماء ، يُطلّ ملكٌ منها على عجوزٍ .. قد حان الرحيل .. تنتهي حياة ولاترجع ولكن مثلها تبدأ ، بكرور الأيام والأعوام تعود الحياة كما يجب أن تعود ، تهدأ بعد توترها ، تسكن بعد تقلبها .. والأهم ، تستمر )
عاد الجليد لصلابته، عاد القلب لجموده .. السماءُ تبتسم في وجه النهر، الأزهار تُعانق برد الشتاء في حرارة، وشيخٌ في الشباب وليس شيخاً يُسمى كل مْن بلغ المشيب، رضيعٌ تحمله أمه إلى الأستاذ الجديد . تُسـَّطّر حياة ٌ جديدة، تبدأ بالخطية ذاتها .. الآن، نُدرك أننا على أعتاب مرحلة جديدة ، الآن ، يتعلم درسٌ جديد .. تعلمه بعد وفاة أستاذه، درسٌ لايُلقن هو الآخر وإنما يُستنبط، يُستكشف ككل دروس الحياة، إنه الآن يوقن أن التجربة هي أصل الحكمة، وأن الحياة تدور بشكل ٍ ساخر، وأن الأيام تُعيد نفسها في شكلٍ و ثوبٍ غير الذي تتبدى به كل مرة.
إذن فأخص خصائص الفلسفة ؛ أنها آراء ومواقف لشخصيات عاشت في الزمان ، لكن هذه الآراء والمواقف الفكرية إمّا تعلو على الزمان والمكان ـ أحياناً ـ ومن ثم فلا تفقد أهميتها عبر العصور أو هي آراء ومواقف ارتبطت بعصرها وعبّرت عن قضاياه ومشكلاته. وفي الحالتين تبدو الفلسفة بعيدة عن أن تكون حوادث أو وقائع ذات زمان ومكان مثل الوقائع والأحداث التاريخية.. لاشئ وقتي اذن ، لاتحتاج لكتاب لتعلم الحكمة، لاتحتاج وثيقة لتتعرف على بنودها .. لن تضطر للجري وراء أوهام عقلٍ يعتقد أنه ينسج الحِكمة بخياله ، يتخيلها ولايعيشها .
و .. ( الربيع )
أمّا حقيقة الألم فهي الظمأ الذي يقود إلى ولادة جديدة، متصلة بالفرح والرغبة، ظمأ للذة، ظمأ للصيرورة، ظمأ للزائل. وإذا ما أردنا أن نتجاوز الألم وأن نتخلص منه، فليس أمامنا إلا أن نتجاوز ذلك الظمأ بإبادة كل اشتهاء إبادة تامة، مما يُفسح المجال أمام هذا الظمأ بأن يتركنا ويمض في سبيله وينصرف عنا، فنتجرد منه!
شاهدته.. فتشبعت ، غمرني بكل مافيه من نُبل المعنى وجمال الصورة وبهاء الحِكمة ، وانسياب الصوت وانسجام التفاصيل التي تُحمل على الصورة . لا أعتقد أنني شاهدتُ شيئاً بمثل هذا الجمال وتلك الروحانية من مدة طويلة .. شاعرية ٌ تُفقد الشعور بإحساس الوجود ، وكأن المُشاهدُ يعبُر للصورة وهي تعبر له فيتلاقيان، فيتعانقان، فيمتزجان ببعضهما حتى كأن الصورة تُصبح صدى ً للمشاهد ، وتُصبح تعبيراً لذاته، عن ذاته .. في ذاته.
بقلم : Omar Mora
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق