بقلم مهند الجندي.
- العرّاب والحانوتي
يظهر وجه بوناسيرا من الظلام مع افتتاح فيلم (العرّاب) للمخرج فرانسس فورد كوبولا مخاطباً السيد كورليوني وفي جعبته طلبٌ ينهي حياة من شوهَ وجه ابنته وعذبها، ساعياً لتحقيق العدالة. لكنه لا يطلب باحترام، يقول فيتو، كما أن ابنته لم تمت، فأين العدالة إذن بقتل معذبيها، العين ليس بالعين دائماً. وحين يفهم بوناسيرا أن عليه تقديم طلبه باحترام، وينادي فيتو بالعراب ويُقبل يده، يحقق له فيتو رغبته كهدية في عيد ميلاد ابنته، وربما يوماً ما سيأتي إليه ويطلب خدمة من بوناسيرا. من شاهد الفيلم لأول مرة لم يتوقع أن يحدث ذلك، أن السيد كورليوني سيحتاج مثل هذا الرجل، والغريب حتى هذا اليوم، لا تشعر أن فيتو جاء إليه لأنه يحتاجه، بل لأنه الوحيد الذي سيتفهم طلبه. المفارقة أن فيتو بدوره يظهر من الظلام حين يدخل عليه بهيئة مغايرة كلياً، هذه المرة دون حضور رجل السلطة والنفوذ والاحترام والشروط، بل بوجه رثاء الأب والفاجعة تحكي نفسها دون الحاجة لكثير من الكلمات؛ لا ينادي فيتو هذا الحانوتي بالصديق بكل احترام وحسب، إنما مستنجداً ومستجدياً عاطفة الأب في قلبه، أمريكا التي آمنا بها طعنتهما في الصميم.
كان فرانسس كوبولا قد صرح في أكثر من مناسبة أنه حظي على طاقم عمل استنثنائي لتصوير الفيلم: رواية مذهلة، موسيقى لا تنسى، فوتوغرافي فريد، مصممو ديكور وأزياء محترفين، وممثلين رائعين. فسأله أحد الأشخاص: ما الذي فعلته أنت إذا؟ أجابه فرانسس: لقد قمت باختيارهم. وهذه الخيارات تتسلل ضمن حقيقة أخرى مثيرة للاهتمام، الطريقة التي يُعالج بها فيتو كورليوني مشكلة مشاركة المغني جوني فونتين في فيلم المنتج وولتز، بداية نشاهد وولتز يستعرض عشقه لحصانه أمام توم في الاسطبل، ثم كلامه الغاضب حول إحدى أهم نجماته التي أنفق عليها آلاف الدولارت وكل أنواع الدروس من تمثيل وغناء ورقص، لكنها ذهبت هباءً منثورا حين غادرت الساحة وانسحبت مع وجود فونتين. وبالتالي بات يرغب بتحطيم مسيرة فونتين الفنية. وولتز يقدم نقاط ضعقه على طبق من ذهب على مسمع توم، والعرّاب يضربه مرة ثانية في المقتل، فيأخذ منه الشيء الثاني الذي يعشقه ألا وهو حصانه، ورأسه يتدلى على سريرة كرسالة تهدد حياته إن رفض عرضه في المرة القادمة “العين بالعين”.
- السمكة والخيانة
تختص السينما كنوع فني وتمتاز عن غيرها بأن العامل البصري فيها يسمو إلى مستوى رفيع عند توظيفه بحرفية عالية؛ لوكا براتزي يرتدي سترته الواقية من الرصاص ويذهب لملاقاة سولوتزو في حانة سيلاقي بها حتفه خنقاً، لكن لاحظ وقوف الكاميرا على الزجاج الخارجي قبل وبعد دخول لوكا، ثمة سمكة مرسومة على الزجاج، ورمزها يتجلى حين يتلقى سوني رسالة صقلية محتواها سمكة ميتة داخل سترة لوكا، ومعناها أنه أمسى ينام مع الأسماك ميتاً. انظر إلى الطريقة التي يبدأ بها الفيلم بتوضيح فكرة بقاء كايتي بعيدة خارج صورة العائلة الكورليونية: يراقب فيتو وصول مايكل معها أولاً في الزفاف من مكتبه، ثم يحرص مايكل على إعلاق كبينة الهاتف أثناء تحدثه مع سوني بعيد قرائته خبر احتمالية مقتل والده، والصورة الأخيرة حين يُغلق في وجهها الباب وتسلم زوجها سلطاته كاملة. المأساة والتحول الجذري في شخصية مايكل لم يحدث فعلياً، بنظري، بعد قتله سولوتزو، إنما بعد تفجير سيارة زوجته “الصقلية”، وتعرضه للخيانة من أبناء أصله وجذوره، يقتنع حينها أن كايتي الغريبة عنه قد تكون خياره الأفضل لأنها ستوفر التنوع والاختلاف في حياته ولأسرته، ولن تشكل هدفاً عائلياً يُهاجم به من قبل الأعداء الإيطاليين الأمريكيين.
بيد أن السؤال يطرح نفسه: لماذا وافق فيتو كورليوني على الاجتماع مع سولوتزو مع أنه يرفض التجارة بالمخدرات ويرى أنها خطرة؟ إنه أحد الدروس الكورليونية بأن تقترب من أعدائك أكثر من أصدقائك. بالفعل، لن ينتهي الحديث عن فيلم (العرّاب) حتى ينتهي جريان الدم في عروق السينما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق