بقلم : أمجد جمال
الجدير بالذكر ان "عوليس" هو الاسم اللاتينى من "اوديسى" بطل ملحمة "هومير" الاغريقية التى تأثر بها "جويس" فى روايته مثلما تأثر بها الأخَوَان فى فيلمهما من خلال احد الخطوط الدرامية الفرعية التى صنعاها لمحاكاة صراع "اوديسى". ويمكن تلخيص ذلك الصراع فى انه قد واجه المخاطر المهولة التى عاقبه بها "بوسيدن"، إله البحر عند الاغريق، فى خلال رحلته البحرية من اجل العودة لبيته وزوجته، والذى يشبه لدرجة ما تعرّض له القط "عوليس" بالفيلم خلال رحلته بالعودة الى منزله بعد ان تاه من "لوين". إنها ليست المرة الاولى التى يحاكى فيها الأخَوَان ملحمة "الأوديسة"، فسبق أن حاكياها فى فيلمهما الأسبق "إخوانى، أين أنتم؟"، ولكنها هذه المرة كانت بشكل اكثر هامشية وفرعية عن مرتهم الأولى تلك. ولكن المرجح ان فى هذه المحاكاة وغيرها من تفاصيل الفيلم حِكَم لا يعلمها اللا الأخَوَان، أو بالطبع أى مشاهد يقرر الاجتهاد والغوص فى عقلهما بحثاً عن ابعاد وطبقات أعمق مما يبدو عليه الفيلم بقشرته الفوقية التى صحيح لم يكن بها بأس، ولكن مايزال هنالك ما هو أبعد للتطلع اليه من متع فكرية ودروس سينمائية لا تظهر على السطح، وهو ما أحاول القيام به فى هذه المقالة.
تدور الأحداث فى اطار من الكوميديا السوداء حول "لوين ديفيس"، مطرب الاغانى الفولكلورية المتعثّر فى حياته الشخصية والفنية، بعد ان انتحر صديقه ورفيقه الغنائى "مايك"، وهو الذى قد صنع معه احدى الاغانى التى نالت بعض الحظ من الانتشار، ليتركه وحيداً يواجه النحس الذى يبدو مصاحباً له فى مشواره البائس من اجل تحقيق النجاح والشهرة كمطرب منفرد ويتخطى مرحلة الغناء فى المقاهى والحانات، كما يواجه تحدى داخلى آخر مع ذاته الفنية عن طريق الصمود وعدم تقديم فن تجارى مبتذل لا يرضيها، فهو يعتقد دائماً بأنه ذا موهبة خارقة، أعلى من ادراك البشر وذوقهم، كما يعتقد بأن اسلوبه الزاهد فى الحياة هو الاسلوب المثالى، وان الفرق بينه وبين غيره من المتكالبين على المال والاستقرار او كما وصفوا فى الفيلم بالـCareerists، هو انه يسعى من اجل ان يحيا بينما هم يسعوا لمجرد بقاء وجودهم، ورغم نظرته الدونية لهؤلاء اللا انه كان يعتمد عليهم بشكل اساسى فى ما يحتاجه من مال يقترضه ومكان ينام به وسيارة لتنقلاته والى آخر هذه المتطلبات المادية التى لا يستطيع انسان ان يحيى دونها. وفى وسط هذا يرصد الفيلم علاقة الصداقة بين "لوين" و"جيم" و"جين"، وهما دويتو غنائى يتفوق فى النجاح على "لوين" رغم نوعية الاغانى الخفيفة التى يقدمانها مقارنة بأغانى "لوين" الحزينة والدرامية، اللا ان شعور الأخير بالشموخ والتفوق والاصالة الفنية والشخصية على حد سواء، ورغم مساعداتهما المستمرة له، فهذا لم يمنعه من خيانة "جيم" عن طريق مضاجعة زوجته "جين"، وما ينتج عن ذلك من حمل لا تعرف "جين" أيهما مصدره فتقرر اجهاضه.
الفيلم يبدأ من حيث ينتهى عن طريق الـ Flash-Forward وهو ما قد يثير بعض الالتباس فى المشاهدة الأولى للفيلم، ويتلاشى مع المشاهدة الثانية، فالفيلم كباقى افلام الأخوين تتطلب اكثر من مشاهدة لإحكام استيعاب ماذا يدور. وعموماً يمكننا اعادة ترتيب الاحداث زمنياً (بغض النظر عن الترتيب الذى يعرضه الفيلم)، لتكون البداية الحقيقة هى استيقاظ "لوين" فى بيت اسرة "جريفين"، بعد ليلة من المعاناة المعتادة التى تواجه بطلنا دائماً ولكن الفيلم لم يخبرنا عنها شىء وتركها مجهولة، فقط أخبرنا فى نهاية الفيلم عن ليلة تتشابه معها فى المعاناة؛ وذلك للايحاء بأن معاناة وفشل البطل تستمر فى حلقة مفرغة تتشابه احداثها وتعاد بشكل دائرى لا ينتهى.
يواصل "لوين" صراعاته المتوازية والمتعددة، بداية من صراعه مع "عوليس" قط عائلة "جريفين"، الذى هرب من المنزل لحظة خروج "لوين" من بابه، ليصحبه معه "لوين" فى رحلته العبثية ومعاناته اليومية التى يزيدها وجود القط معاناة، مروراً بصراعه مع "جين" التى تريد منه المال من اجل عملية اجهاضها وتوبخه دائماً بسبب فعلته، وصولاً لصراعه البائس من اجل تحقيق النجاح الفنى والشهرة واقناع المنتجين بموهبته المزعومة. ويجمع بين كل هذه الصراعات عامل مشترك، هو سوء الحظ، فـ "عوليس" تهرب لأنها تنجح بجزء من الثانية فى اجتياز باب المنزل، و"جين" تحبل رغم ارتداء "لوين" لواقٍ ذكرى اثناء ايلاجها (او هكذا قالت)، كما يتصادف مرور القطار بصوته الصاخب الذى يمنع "لوين" من سماع "جيم" عبر الهاتف وهو يخبره ان يحضر لاستوديو احدى الشركات الكبرى لتسجيل أغنية "Please Mr. Kennedy" .. ناهيك عن مشهد البداية الذى نجد فيه البطل يُصفع ويُضرب بدون سبب وجيه.
العالم يحارب هذا المسكين!
من هنا يميل المتفرج لتصديق أن ما يتعرض له "لوين" هو سوء حظ وتآمر كونى على موهبته العظيمة وشخصيته الفذة، حتى يعاجلنا الأخَوان بمشهد النهاية، الذى كما قلت لم يكن سوى مشهد البداية ولكن مع افشاء تفاصيل جديدة عنه، فضّل الأخوَان عدم افشائها من البداية لنتوهم الاضطهاد مع بطلنا لأننا لم نرى سوى وجهة نظره للأمور، لنعلم أخيراً ان معاناته لم تنبع سوى من خياراته وعواقبها، وتم الايحاء بذلك المعنى قبل النهاية بقليل عندما منع "لوين" القط من تخطى عتبة منزل "جريفين" اثناء محاولة القط الثانية للهروب، فى علاقة رمزية بين الفعل والعاقبة، فالمعادلة بسيطة، عندما تنتبه وتغلق الباب فلن يهرب القط.
استخدام القط لم يكن للتدليل على المعنى السابق وحسب بل امتد ليشمل أبعاد أخرى، فى البداية يجب ان نتذكر ان الفيلم احتوى على قطين وليس قطاً واحداً، احدهما مزيف والآخر حقيقى، فى رمز لجزئين من شخصية "لوين" الفنية، احدهما يتطلع للاصالة والفن الحقيقى والآخر يمثل الفن المبتذل المزيف الذى يهرب منه (قتل القط المزيف)، والقطان صاحبا بطلنا فى اغلب مشاهد الفيلم كل منهما على حدى، فى رمز ان "لوين" لا يستطيع الجمع بين الفن الحقيقى والتجارى فى آن واحد مثلما فعل رفيق الحانة "بوب ديلان" ونجح فى تحقيق نجاح اسطورى من نفس الحانة وبنفس نوع الموسيقى وبنفس الظروف التى تعرض لها "لوين"، فمفهوم "لوين" عن الاغانى الفولكلورية كان مفهوم سلبى محبط، فهو يصفها بأنها "not new & never gets old"، بينما "بوب ديلان" صنع ما هو جديد واستطاع تفجير ثورة بهذا النوع من الموسيقى، دون أن يقدم ما هو رخيص أو مبتذل، على نفس السياق نجد ان القطين ليسوا فى الحقيقة ملكاً لـ "لوين"، فى اشارة ان حتى صفة الأصالة بالقط الأول والتى كان "لوين" يتشدق بها على مدار الفيلم لتبرير فشله هى ليست فيه ايضاً، بل هو مجرد مدعى لم يبذل اى مجهود او ابداع يؤهله للوصول لما يظنه يستحقه.
وفى قراءة موازية لرحلة هروب القط "عوليس" خارج منزله، وما نتج عنها من اختلاط الامر على "لوين" بين القط الأصلى والقط المزيف، فقد كانت تلك الرحلة تمثل الحيرة والصراع الداخلى الداخلى للبطل بين ان يتنازل ويقدم فن تجارى لا يعبر عنه، أو يظل صامداً مع فنه الحقيقى المزعوم، وينتهى ذلك الصراع عندما يقوم بمنع القط الاصلى من مغادرة المنزل فى المرة الثانية قبل نهاية الفيلم ويبقيه داخل منزله، فى اشاره انه قد قرر انتهاج المسار الثانى بالاتساق مع الذات، ولكن هنا تأتى صفعة الأخَوين "كوين" لتنزل على وجهه مثلما نزلت صفعة زوج تلك المطربة التى اهانها "لوين"، لتخبرانه بأن الاتساق مع الذات ليست قيمة فى حد ذاتها المهم ماهية تلك الذات، وان التحسين والتطوير من النفس ليس دائماً تزييف لحقيقتها، خاصة لو كان الأمر يتعلق بالفن، الذى يقوم بالأساس على الابداع والتطور الدائم وعدم الثبات على المألوف حتى يستطع الفنان المنافسة وإللا استحق فشله.
هل لاحظت قبل ان يتقابل "لوين" مع منتج شركة Horn Gate، انه قد قام لتوّه بدهس القطة المزيفة بسيارته؟ فى نفس الأثناء التى كان القط الأصلى قد وصل منزله. لقد قابل "لوين" المنتج متجرداً من شعاراته وهواجسه وأقنعته التى مثلها القطان، وكلل المنتج ذلك التجرد عندما رفض الاستماع الى اسطوانته وصمم على ان يسمع غناءه مباشرة قائلاً "اسمعنى شىء من داخل لوين ديفيس"، كان يقصد عنوان الاسطوانة، ولكنه قام بالتدقيق والتركيز على كلمة "داخل"، وبعد ان سمع المنتج أخبره بأن ما بداخل لوين ديفيس لا يجلب المال، فهمناها أولاً من منظور بطلنا على انها اطراءً لاصالته وسمو ذاته الفنية فى مواجهة هذا الرأسمالى اللعين، ولكن بعد ان انكشفت تفاصيل النهاية، وشاهدنا "بوب ديلان" الصغير ينشد اغنيتة، وعرفنا مبرر الرجل الذى يقوم بضربه، تفهّمنا حينها وجهة نظر المنتج من زاوية رؤية أخرى.
لقد ظهر "لوين" فى كثير من المشاهد وهو يحمل القط فوق كتفيه، فى رمز ان القط بما يحمله من معانى مختلفة يمثل عبئاً فنياً على كاهله ويمنعه من التقدم بجعله يتمسك بشعارات فارغة وعبثية مثل رمز الحجر الضخم بأسطورة سيزيف، والتى اتسقت مع الحلقة المفرغة فى أسلوب السرد لصراعه المتكرر والأبدى، ولأغانيه التى هى ليست بجديدة وليست بقديمة. كما شاركت شخصية "مايك" مع القط المزيف فى تمثيل الجانب التجارى النفعى من شخصية "لوين" الذى مات، فنصحه المنتج بأن يعود لمايك. وفى الحقيقة لا استطيع الجزم بما كانت تمثله الشخصية التى قام بها "جون جودمان"، ولكنها على الارجح تمثل النسخة المستقبلية المأساوية من "لوين"، فهى تتشابه معه فى تعاليه واستهتاره ومهنته الموسيقية بالطبع، وربما لو استمر "لوين" على نهجه لأصبحت نهايته مشابهة فى عبثيتها (متوفيا فى مرحاض).
فى مايو الماضى وأثناء فاعليات العرض الأول للفيلم بمهرجان "كان"، وجه الصحفى سؤاله لـ"جويل كوين" عن ما الذى كان يرمز له الأخير من خلال القط، ليجيبه "كوين" مازحاً "لقد شعرت ان الفيلم يخلو من حبكة، فقررت اضافة ذلك القط الى الاحداث"، وكان رداً ذكياً، فالمبدع لا ينبغى ان يعطى جمهوره كتالوجاً لإبداعه، فسواء نجح الجمهور او فشل، اختلف او اتفق، على ايجاد مفهوم واحد لرموز وفك طلاسم الفيلم، تبقى المحاولات لفعل ذلك وعثور كل متفرج على معنى يناسبه ويقتنع به، هو سر العبقرية ووحدة قياس للمتعة، حتى وإن لم يكن هنالك أى معنى يقصده المبدع (وهذا مستبعد مع الأخوين كوين).
فى اعتقادى ان الأخوين كوين قد وصلا بهذا الفيلم الى مرحلة نضج لم يصلاها منذ رائعة "بارتون فينك"، الفيلم حاصل على جائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان "كان"، وجائزة أفضل فيلم فى العام من جمعية النقاد الأمريكية، وكان خبر عدم ترشحه لجائزة الأوسكار على حساب أفلام متوسطة مثل "كابتن فيليبس" بمثابة سقطة للقائمين على تلك الجائزة لن تقلل من شأن الفيلم باعتباره احد افضل افلام العام الماضى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق