ترجمة مهند الجندي عن روجير إيبيرت.
أعلن المخرج كريستوف كيسلوفسكي أنه سيعتزل بعد إكماله فيلم Red عام 1994، وهو الجزء الأخير من ثلاثيته Three Colors، ولم يكن ذلك بداعي التعب، فهو لم يكن من هؤلاء الرجال. اعتزاله كان بمثابة اعتزال ساحر، “البروسبيرو” أو الدوق الذي بات راضياً أن يترك فنه من أجل “القراءة والتدخين.” حسب تعبيره. وعندما توفي بعد ذلك بسنتين، لم يكن قد تجاوز السادسة والخمسين من عمره.
لم ينل كريستوف كيسلوفسكي التقدير الذي يستحقه إلى جانب مخرجين مثل بيرغمان وأوزو وفيلليني وكيتن وبونويل لأنه صنع معظم أعماله في بولندا خلال الحرب الباردة ولأن تحفته The Decalogue تحتوي على 10 ساعات سينمائية لم تكن مناسبة لعرضها في الصالات. لقد كان من صانعي الأفلام الذين يمكن أن ألجأ لهم لمواساتي إذا علمت أنني سأموت قريباً، أو لأضحك معه إذا اكتشفت أنني نجوت من الموت وسأبقى على قيد الحياة.
يتعامل المخرج عادة مع المرض والخسارة والموت، لكن أفلامه تتضمن قدر عميق من الفكاهة لمن يبحث عنها في مضمون مواضيعه. ثمة مقطع في فيلم White عام 1994 يشعر فيه البطل، وهو حلّاق بولندي، بالحنين الشديد للوطن وهو في باريس لدرجة أنه يرتب عودته إلى وارسو بالجلوس مثل كرة لولبية داخل حقيبة سفر. يراقب صديقه الذي يستقبله في المطار شريط الأمتعة وهو مرعوب: الحقيبة غير موجودة، لأن مجموعة من اللصوص قاموا بسرقتها وكسروا القفل فوجدوا الرجل الصغير هذا، فضربوه بوحشية ورموه في كومة من القمامة. يلملم الرجل نفسه ويقف على قدميه وينظر من حوله وهو مغطى بالدماء، ويصرخ بنشوة الانتصار “وصلت وطني أخيراً!”
تؤدي جولييت بينوش في Blue عام 1993 دور امرأة يموت زوجها وطفلها في حادث سيارة، وبعد مرورها بفترة من الشلل العاطفي، تتصل بصديق قديم لها لطالما كان يحبها وتخبره أن فرصته معها قد حانت وأخيراً. فيمارسا الجنس لأنها تريد أن تعرف إن كان ذلك سيساعدها في محنتها هذه، لكنها تبقى على نفس الحال. تنتقل بعدها للعيش في حي باريسي قاتم وغامض، وتتعمد أن لا تقابل أحداً تعرفه وأن لا تتعرف على أحد جديد. بيد أن الصدفة خير من ألف ميعاد، لأنها تقابل عشيقة زوجها الراحل.
تقوم آيرين جايكوب ببطولة أفضل أفلام الثلاثية المميزة هذه، ويحمل عنوان Red عام 1994، وتلعب فيه دور امرأة اسمها فالنتاين تعيش في جنيف، تصدم بسيارتها كلباً جميل الشكل، فتعتني فيه حتى تتحسن صحته وتعيده إلى صاحبه، وهو قاضٍ متقاعد (جان-لوي ترنتینیان)، يخبرها أن بإمكانها الاحتفاظ بالكلب، فلديه مشاكل أهم من عناية الكلاب. يمضي أيامه باعتراض المكالمات الهاتفية الخاصة بجيرانه ويراقبهم عبر نافذته بفضول مثل الإله، لأنهم يملكون حرية الإرادة واختيار طبيعة أفعالهم. يود أن يلعب دور المراقب من بعيد بعد عمر عاشه في إطلاق الأحكام على الناس.
كان القاضي قد وقع بالحب في شبابه، لكنه خسره وبات يعيش مداوياً لجراحه العاطفية بانتظار حب آخر في حياته. ومع أنه يرفض التعامل مع فالنتاين في البداية، إلا أنه يخبرها قصته بشكل تدريجي لاحقاً. ثمة لحظة في الفيلم تقوم بها فالنتاين بالاستماع إلى قصته بكل انتباه وشفقة لدرجة أنها تبدو وكأنها تصلي. ونعلم شيئاً فشيئاً أن قصة القاضي وحبه المفقود تكشف أوجه شبه مع قصة فالنتاين وعشيقها الغائب دائماً ومع قصة شاب يدرس في كلية الحقوق يعيش مقابل شقتها في المدينة، وهو طالبٌ لم تقابله في حياتها.
كُتبت سلسلة The Decalogue وهذه الثلاثية بالاشتراك مع محامٍ اسمه Krzysztof Piesiewicz قابله كيسلوفسكي خلال محاكمات التضامن. ويتذكر المخرج العمل معه بالقول: “لم يكن يعرف كيف يكتب لكنه كان بارعاً بالحديث.” فقاما بتحضير الفيلم خلال محادثتهما سوياً. ومع أن المخرج كان يكتب معه دائماً إلا أن الغريب هو استخدام كيسلوفسكي لمدير تصوير مختلف لكل فيلم من الثلاثية؛ مفسراً ذلك أنه أراد شكلاً مختلفاً لكل واحدٍ منها. يبدو أن Piesiewicz كان مؤيداً للآراء المتضاربة لأن الثلاثية بمجملها مقدمة بطريقة غير تقليدية أبداً.
تأتي الأفلام في هذه الثلاثية على النحو التالي: Blue مناقض للمأساة وWhite مناقض للكوميديا وRed مناقض للرومانسية، وجميعها تشدنا فوراً للاهتمام بأسلوبها السردي. تعرض الثلاثية مواضيعاً وجودية باستخدام الأمثلة وليس النظريات، حيث يقوم المخرج بسرد القصة الرمزية لكن دون أن يكون واعظاً لمغزى هذه القصة، ونفس الشيء ينطبق على Decalogue الذي استند كل فيلم فيه على الوصايا العشر، لكن ليس من الممكن دائماً أن تحدد الوصية التي يقدمها كل فيلم، أو ما يقوله كل عمل عن كل وصية. أعرف ذلك لأني قمت بتدريس Decalogue في حصة سينمائية، عندها اكتشفنا أن ترتيب الوصايا يختلف قليلاً في النسخ اليهودية والكاثوليكية والبروتستانتية، فتنهد أحد الطلاب عندما شاهد “نسخة كيسلوفسكي.”
وبنفس الطريقة الضمنية وباستخدام الرمزية المفيدة، ترمز أفلام الثلاثية إلى الألوان الفرنسية الثلاثة، وتمثل الحرية والمساواة والإخاء. تحصل جولييت بينوش في Blue على الحرية بعد خسارة زوجها وطفلها لبدء الحياة من جديد، أو أن لا تبدأ بها. وزبيغنيو زمشوسكي في White تتركه صديقته الجميلة (جولي ديلبي) بعد أن عانى الأمرين للانتقال إلى باريس. وفي موطنه بولندا، يريد أن يجني الملايين كي يتساوى معها وينتقم منها. أما فالنتاين والقاضي العجوز في Red فلديهما إخاء روحي يجتاز حواجز الزمن والجنس لأنهما يملكان المخيلة لتقدير ما كان يمكن أن يحصل بينهما.
هناك أيضاً خبايا تبقى خفية مثل احتمالية أن هذا المخرج مصمم جداً على دراسة شخصيات جيرانه دون اشراك نفسه بمشاكلهم، وهو قد يكون الدافع وراء القسم الأخير الذي يجمع بين فالنتاين وذلك الشاب الذي يقطن في المبنى المقابل منها. فربما هذا الشاب هو المخرج نفسه، لأن جداوله الزمنية متداخلة وتفاصيله الخاصة تتغير طبعاً مع الظروف.
تقول الأستاذة في جامعة كولومبيا والناقدة السينمائية أنيت إنسدرف التي كانت تعرف المخرج جيداً وترجمت له كثيراً: “من النادر أن تقول عن المخرج ‘ياله من رجل طيب’ لكنه كان كذلك بالفعل. لقد كان عاطفياً وواقعياً وجدي بفكاهته ومظهره، لكنه ترك بصمة واضحة.” ويوفر كتابها Double Lives, Second Chances: The Cinema of Krzysztof Kieslowski المفتاح لفهم أعماله من خلال عنوانه. فكيسلوفسكي لم يصنع فيلماً إلا وكانت شخصياته تملك خيارات أمامها، فأفلامه عادة ما تكون عن خيارات أبطاله وكيف وصلوا إليها والعلاقات الوثيقة التي أنشأوها أو تلك التي فاتتهم.
تقوم معظم الأفلام بافتراض ضمني أن شخصياتها محددة بالحبكة التي تقدم قصتهم، بيد أن الحياة ليست عن القصص.
قصص الأفلام تدور حول الحياة، وهذا هو الفرق بين الأفلام المخصصة لأطفال عن تلك الموجهة للكبار. لقد احتفى المخرج بالخطوط الزمنية المتقاطعة وشرايين الحياة، وما يقوم به البشر من إتخاذ أو تجنب للخيارات. إن جميع أفلامه تسأل عن سبب قيام مخرجي الأفلام بسلب قدرتنا على الاختيار مع أن الخالق وهبنا حرية الإرادة.
ثمة لحظة في فيلم The Double Life of Veronique عام 1991 كانت إذا قامت فيها البطلة بالنظر عبر نافذة الحافلة قبل ثانية واحدة لربما لمحت نفسها في ساحة المدينة. كيف يمكن أن يحصل ذلك؟ هل هي لحظة منشقة عن نسيج الزمن؟ استرجاعٌ من عالم موازٍ؟ لم يحلم كيسلوفسكي أن يبوح بتفسير ذلك أو ربما لم يعرف الإجابة عن هذه الأسئلة.
تقول إنسدرف: “لقد أحب كيسلوفسكي شخصياته وكان يدعونا لإدراك حدودنا وقدرتنا على التفوق بطريقة مؤثرة.” ويمكنك استشعار ذلك في الحنية الموجودة بكل إطار من أفلامه. فالقاضي العجوز في Red قاسٍ وفظ لكنك تشعر أن معاملته لفالنتاين بهذا الشكل يؤذيه ولا يسليه. ونلاحظ أنه مثل معظم شخصيات المخرج يسبح بشكل تصاعدي في حياة خانقة على أمل أن يطفو نحو السطح في مكان ما.
إنني مرتبط بشدة بكيسلوفسكي لأني أبحث أحياناً عن نفحة سموٍ من خلال زيارتي مرة أخرى لأماكن كنت قدر زرتها في سنوات ماضية، فأنا أفكر الآن بمقهى في البندقية، وبمنحدر منخفض يطُل على البحر بالقرب من مقاطعة دونيجال الايرلندية، وبمتجر للكتب في كايب تاون وبغرفة الفطور في متحف السير جون سون في لندن. إني منجذب لهذه الأماكن بروح الرجل الحاج، ولا يستطيع أحد غيري أن يرى خيالات زياراتي السابقة أو المستقبلية، أو أن يعرف أنها مقاييس خلودي، لكن إذا لمحت نفسي وأنا أهم بمغادرة ذلك المقهى في البندقية، لن أتفاجئ أني كنت على وشك أن أقابل نفسي هناك.
كان كيسلوفسكي سيتفهم عن ماذا أتحدث، ثمة صلة بين كافة أفلام الثلاثية على شكل لقطة قصيرة لسيدة عجوز تحاول إلقاء زجاجة في سلسلة مهملات الطريق، لكن الفتحة أعلى منها، فتحاول فالنتاين في Red أن تساعدها، بيد أن أول فيلمان من الثلاثية تدور أحداثهما في باريس، فماذا تفعل هذه العجوز في جنيف بالضبط؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق