منذ بدايات سنوات الخمسين اقتصرت معرفة «العالم الخارجي» للسينما اليابانية، التي كانت مجهولة تماماً قبل ذلك، على اسم واحد هو اسم ذاك الذي بفيلمه الكبير «راشمون» عرف كيف يخلق لسينما بلاده آلاف المعجبين حول العالم، من الذين راحوا ينقبون مدهوشين ليكتشفوا بالتدريج أسماء يابانية أخرى عدة كانت في البداية عسيرة على النطق، ولكن أهل السينما والمهرجانات سرعان ما اعتادوا عليها. ومع هذا استقرت «البورصة» طوال نحو عقدين على ثلاثة أو أربعة أسماء راحوا يُتداولون من مهرجان الى آخر. ولئن كان المخرج الكبير اكيرا كوروساوا،
صاحب «راشومون» الذي فتح الطريق، قد غطى بقامته الفنية المديدة على كل ما له علاقة بالسينما اليابانية طوال حياته وبفضل أعماله الكثيرة والشهيرة، فإن السينما اليابانية عرفت بالتالي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، اسماء كبيرة أخرى، منها يوسيجيرو أوزو وكنجي ميزوغيشي وهما الى جانب كوروساوا من الكلاسيكيين وإن كان فنهم اتّسم بنفحة غربية لا شك فيها. غير أن سنوات السبعين سرعان ما حلّت ليبدأ العالم اكتشاف أجيال جديدة متلاحقة من مبدعين سينمائيين يابانيين، سرعان ما أصبحوا بدورهم كلاسيكيين على رغم ثوريتهم. وإذا كانت الأسماء التي يمكن إيرادها هنا عديدة، فإن في الإمكان ذكر ثلاثة منها على الأقل لمبدعين كان من قدرهم أن قضوا وهم بعد في ذروة عطائهم وهؤلاء هم ناغيزا اوشيما الذي يبقى أشهرهم، وشوهي إيامورا الذي فاز مرتين بالسعفة الذهبية لمهرجان «كان»، وأخيراً شوجي تيراياما، الذي نتوقف هنا عند واحد من أكثر أفلامه ثورية، علماً أن أوشيما وتيراياما مثّلا معاً جيل الرفض السياسي والإجتماعي وربما الأخلاقي أيضاً في هذه السينما اليابانية التي نتحدث عنها.
> شوجي تيراياما شاعر وروائي ومؤلف مسرحي وسينمائي ولد في العام 1935. وكان طوال السنوات الأخيرة من حياته يلقب بـ «الطفل الشقي في السينما اليابانية». وكان يعرف، في اليابان وفي الغرب أيضاً، بأنه واحد من أكثر أبناء جيله موهبة ومشاكسة. وهو، على اية حال، كان يتصرف ويشتغل وكأنه يعرف أنه لن يعيش طويلاً وأن عليه أن «يقول كلمته ويمشي، وعليه، بالتحديد أن يقولها قوية قبل أن يمشي».
> تروي سيرة شوجي تيراياما أنه اكتشف الفن السابع في صالة سينما شعبية كان يديرها قريب له، حضنه منذ كان طفلاً. غير أن اكتشاف تيراياما للسينما لم يدفعه الى خوض غمارها على الفور، بل انه وهو بعد في صباه الباكر اتجه الى كتابة الشعر، وكان في التاسعة عشرة من عمره في العام 1954 حين نال جائزة قومية للشعر عن مجموعة نشرها ولقيت استقبالاً حافلاً لدى القراء الشبان، لما فيها من تمرد على الجيل الذي صنع الحرب العالمية الثانية، ولما فيها من مشاكسة على «تخلف المجتمع» و «معاداته للشبيبة». ولسوف يقال إن تيراياما، بتلك القصائد الأولى، كان واحداً من الذين مهدوا لثورة الشبيبة اليابانية أواسط سنوات الستين. وهي الثورة التي أوصل تيراياما تعبيره عنها وعن ضرورتها في واحد من أشهر افلامه على الصعيد العالمي وهو فيلم «لنرمِ الكتب ونخرج الى الشارع» (1971) الذي كان أشبه بصدمة في عالم السينما حين عرض.
> في البداية كان تيراياما مفاجأة أساسية مدهشة حين عرض العام 1970 فيلمه الغريب ولكن القصير «الإمبراطور بندورة - كاتشآب» في تظاهرة أسبوعي النقاد في «كان». لكن المفاجأة كانت أكبر حين عرض في العام التالي فيلمه الطويل الأول في «مهرجان سينما المؤلف» في سان ريمو لينال عليه الجائزة الكبرى. وكان الفيلم، تحديداً «لنرمِ الكتب ونخرج الى الشارع». جاء الفيلم متّسماً بغرابة تكاد تنتمي الى العالم السوريالي، حيث أن المخرج جعل المشاهد الإفتتاحية تتألف من تعاقب لصور وأصوات تبدو غير متجانسة أو مترابطة، قبل أن يتضح أن هذه اللعبة التشكيلية إنما هي منتظمة من حول موضوع أساسي واحد هو أزمة المراهقة، وذلك من خلال حكاية مراهق يتابع الفيلم علاقاته مع والديه وأخته، ومن ثم هروبه من البيت العائلي وتجاربه الجنسية الأولى ثم علاقاته المتشابكة والإستفزازية مع أصدقائه والناس من حوله. غير أن الأهم من هذا كله في هذا الفيلم، هو أن تيراياما لا يتوقف فيه عن التساؤل حول فن السينما نفسه وحول الوظيفة التي يمكن عزوها الى هذا الفن. فعند مفتتح الفيلم مثلاً، يبقى المشاهدون شاخصين الى شاشة سوداء، بل شديدة السواد، ومن خارجها يُسمع صوت الشاب وهو يطرح على نفسه أسئلة مثل: «ما الذي ننتظره؟ إننا ننتظر دائماً في الظلام ودائماً لا نسمع شيئاً... ولا شيء يبدأ». وهذا الصوت هو نفسه الذي نسمعه في نهاية الفيلم وهو يقول في وقفة مشابهة: «إنها المرة الأولى في حياتي التي أمثل فيها دوراً في فيلم. السينما ليست سوى وهم. وإن ليس في إمكاننا أن نعرض فيلماً على حائط من الضوء. لقد أحببت كثيراً أن أمثل المشاهد الغرامية، كما المشاهد الخارجية. أحببت المخرج وفريق العمل من التقنيين. لكني لا أحب السينما. وليست لديّ أية رغبة حقيقية في ان أستعيد هذه التجربة من جديد...» وهنا على الشاشة فيما يقول الشاب هذه العبارات تتتالى صور كل العاملين في الفيلم.
> في الحقيقة ان الفيلم، على رغم عنوانه الطنان، لا يحمل أكثر من مثل هذه الصور والعبارات والأصوات، ولكن ضمن إطار لعبة توليفية بدت في ذلك الحين ثورية خالصة في الشكل والمضمون. لكن هذا الفيلم لم يكن أول أفلام تيراياما بالطبع، فهو خاض الفن السابع منذ بداية سنوات الستين، وبعد أن واصل نشر قصائده كما اشتغل في المسرح التحريضي وكتب واحدة من المسرحيات الأكثر تحريضية في ذلك الحين «الدم يموت واقفاً» التي ندد فيها بالمعاهدة الموقعة بين اليابان والولايات المتحدة، آخذاً على طوكيو تسامحها مع الأميركيين رغم تدميرهم مدينتين يابانيتين بواسطة القنابل النووية. وفي تلك الفترة بالذات، وإمعاناً في التحريض ضد «الامبريالية الأميركية» أسس تيراياما مختبراً مسرحياً، ونشر روايته الشهيرة «أمام عينيّ الصحراء» التي ترجمت الى العديد من اللغات ومن بينها الفرنسية. وهو زار مع فرقته المسرحية دولاً غربية عدة، وقدم خصوصاً مسرحية «تعليمات الى الخدم» المقتبسة عن جوناثان سويفت والتي كان لها صدى واسع جعل كثيرين يعتبرون تيراياما «جان جينيه اليابان».
> في ذلك الحين، إذاً، كان تيراياما بدأ يتجه الى السينما، أولاً ككاتب للسيناريو، حيث كتب أربع سيناريوات للمخرج شينوا، كما كتب سيناريوات لآخرين، كان أبرزها «الحب الأول، نسخة الجحيم» الذي اخرجه س. هاني في العام 1968. أما مسار تيراياما كمخرج فبدأ عبر العديد من الأفلام الوثائقية، قبل أن يقتبس روايته «لنرمِ الكتب ونخرج الى الشارع» في فيلم طاف العالم كله وعرض في المهرجانات واعتبر «منشوراً ثورياً حقيقياً» لا يمكن اليوم أن تذكر ثورات شبيبة العالم في الستينات وبداية السبعينات من دون أن يذكر. وبعده حقق فيلماً لم يقل شهرة عن الأول بعنوان «غميضة ريفية» (1974) اقتبسه عن مجموعة شعرية كان أصدرها قبل سنوات. في ذلك الوقت كان المرض قد بدأ يستفحل في جسده الواهن، لذلك راح يشتغل بكثافة وسرعة فحقق فيلمين لم ينالا اطراءً كبيراً بل قال كثر من النقاد إنه انما حققهما على هامش عمله الأساسي وجاءا اشبه بأفلام، التوصية»، وهما «الملاكم» (1978) و «متاهة الأعشاب» وهو عبارة عن فيلم قصير كجزء من ثلاثية كان هو على اية حال أفضلها (1979). بعد ذلك حقق تيراياما فيلمه الأخير، وكان انتاجاً مشتركاً مع فرنسا وألمانيا وقام ببطولته الفنان الألماني الكبير كلاوس كينسكي وعنوانه «ثمار الهوى». وهو لم يكن من أفضل أعماله، بل طالبه النقاد حين عرضه بأن يعود الى أصالته اليابانية. وفي ذلك الوقت بالذات كان تيراياما يشتغل على اقتباس لرواية غابريال غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة»، غير أنه رحل العام 1983، من دون أن يتمّها، بعد أن كان المرض قد تمكن من شل حركته وفكره ومن ثم القضاء عليه وهو لا يزال بعد واعداً.
ابراهيم العريس | الثلاثاء 31 أيار 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق