اغتصاب، مثليّة، تعصّب، خمور ومخدّرات، شتائم بذيئة، وثلاث نساء يعِشن سويًا في تل أبيب، إنّه المزيج المضمون لإثارةِ غضبِ أي مجتمعٍ مُحْتقنٍ، مهووسٍ بنسائه (هل هناك مجتمع ليس مهووسًا بنسائه؟)، المُخرجة ميسلون حمّود (1982)، ابنة قرية دير حنّا الفلسطينية، تُقدّم ما سبق في فيلمِها الروائيّ الطويل الأول "بَر بَحَر"، الذي يعني التذبذب بين أمرين/ نقيضين، بإنتاجٍ إسرائيليّ فرنسيّ مُشترك في 2016، فيلمٌ أثار غضبَ الكثيرِ منهم بلديّة مدينة أم الفحم التي منعت عرضَ الفيلمِ وأصدرتْ بيانًا استنكاريًّا يُندد به لأنّه أظهرها، وهي "بلد الكرم والشهامة"، بصورةٍ مُسيئةٍ.
إذن، نحن أمام نمطٍ مألوفٍ يتكرر كثيرًا، سيؤدي إلى ردّةِ فعلٍ أكثر تكرارًا وهي إقبال المشاهدين على هذا الفيلم "المشين" رغم كل شيء، معروفة!
ماذا يوجد في "بَر بَحَر" بجانب كل تلك "المُهيّجات"؟ في الحقيقةِ لا يوجد شيء.
نساءُ الـ "بَر بَحَر"
تشاهد ميسلون حمّود في المقابلات تلفتك طلتُها بالشعرِ القصيرِ الغُرابيّ، وطريقتُها الحلوة في نطقِ الحروفِ، مع ذلك السمت الأوروشرقيّ المميّز (وُلدت في بودابست)، شجاعة، متأثّرة بما يرمز له اسمُها الحاملُ للتاريخ والجغرافيا في آن، اسمٌ نازفٌ في ذاكرةِ النّضالِ العربيةِ، تقول للمذيع شادي بلّان ردًا على سؤالِه حول تمرّدها: "اسمي اسم معركة، خلقت واعطوني اسم معركة، إيش بتتوقع يعني!"، واعية لمشاكلِ مجتمعِها وعلاقة نسائه به، وببعضهنّ البعض، لكن المواطِنة الواعية ليس بالضرورةِ أن تكون مُخرجة سينمائيّة بنفس الوعي و"الشطارة"!
ليلى صخر (مُنى حوّا)، وسلمى زعتري (سنا جمّالية)، ونور(شادِن قنبورة) تتلاقى حكاياتُهن، تضيق، وتلتصق لتصير قصة واحدة أمام العُقد الذكوريّة، أو هكذا تُريدنا حمّود أن نعتقد.
ليلى محامية من الناصرة، منفتحة وجسورة، لها "شلّة" كبيرة من بينِهم شاب مثليّ ينادونه أحيانًا بالـ.....، يتعاطون الكحول والمخدرات في كل حفلاتِهم الصاخبةِ، تتعرف على زياد (محمود شلبي) القادم من نيويورك بعد دراسته للسينما هناك، وتخاله "صنفًا" جديدًا من الرجال، يتبادلان الغرام غير مرّة، ثمّ تكتشف خجلَه من سلوكِها أمام شقيقتِه حنان (ناهد حامد) وغيرها،وأنّه ليس بالـ "مُختلف" الذي ظنّته، فتُنهي العلاقة في موقف السيارات.
سلمى، مسيحيّة من ترشيحا، طاهية صباحًا وساقية/ دي. جيه ليلًا، تملأ جسمَها الخمريّ بالوشومِ والثقوبِ، تسير حياتُها هادئة باستثناء المرّات التي تحاول فيها والدتُها (خولة الحاج دبسي) أن تعرّفها على عريسٍ في لقاءٍ تقليديّ، يمنعها المديرُ الإسرائيليّ من الحديثِ بالعربية أثناء العمل فترمي المريلة وتغادر موجّهةً له إصبعها الأوسط، وقبل أن تكتشفَ والدةُ سلمى مثليّة ابنتها، نعرف ذلك بلقطاتِها مع دُنيا (أحلام كنعان) التي تأخذها إلى بيت العائلة في ترشيحا، تشاهدهما الأم في المطبخ وهما تعبّران عن المشاعرِ الوليدةِ، تُخبر والدَها، يضربها ويمنعها من مغادرة البيت، ولكنّها تغافلهما وتهرب بيسرٍ كهرّة، وتعود إلى تل أبيب استعدادًا للمغادرة إلى برلين.
نور من أمّ الفحم، فتاة متديّنة ترتدي الحجابَ بإحكامٍ فلا تظهر من تحتِه شعرة واحدة، مخطوبة لوسام (هنري أندراوس) المتشدد الذي يتنامى غضبُه من إقامتها مع سلمى وليلى، يلتقيان، بمفردهما، في شقتهنّ المشتركة بعد أن تطهو له ألذّ ما يُمكن تقديمه، لقاءات حذرة تشبه اجتماعَ الدائنين بالمدينين، تُرصّع جدرانَ الشقةِ وطاولاتها بالمعوّذات قبل كل زيارة، يحتد عليها لأسبابٍ تافهةٍ، وفي إحدى المرات يغتصبها، بجانب مُلصق "العودة حق مقدّس"، ليسيطر عليها أكثر!، فتلتحم الفتاتان معها، رغم عدم استلطافهما لها في البداية، لهدفٍ واحدٍ وهو إجبار وسام على فسخ الخطوبة، وهذه، قوّة دعم النساء للنساء، النقطة المُضيئة الوحيدة داخل الفيلم فيما يخص القضيّة التي تقول ميسلون أنّها موضوعه الأساسي: المرأة وأوضاعها.
برٌ وبحرٌ وطينٌ
يبدو أنّه من العسير، على بعض المخرجين والمخرجات، معالجة قضايا النساء دون صبّ القصّة في القوالب الجاهزة، كليشيهات لا بدّ منها، وهذه عملية خطيرة، لأنّها تتحول إلى اطمئنان واستسهال، حيث تُخاض المعاركُ بمقدارٍ محسوبٍ، لا يتجاوزه صانعُ الفيلم ولا المستقبِل/ الجمهور، وجبة مجمّدة يتم تسخينها عدة مرات، وتقديمها لذات الضيوف بذات الكيفية.
دراميًا يُعاني نص "بَر بَحَر" من الخبوّ والذبول، حمّود كاتبة السيناريو أيضًا، بالنسبة لقضية نور ووسام، فمستوى تديّنهما لا يسمح لهما أصلًا بالانفراد أثناء الخطوبة، ولا يُمكن لفتاةٍ بهذه الدرجة من الالتزام "الظاهريّ" والوقار أن تتنصّت على عاشقيْن في غرفة النوم، إلا إذا كان التنصّتُ هو قصة الفيلم وهذا يستلزم معالجة دراميّة مختلفة تمامًا، أما الأكثر إثارة للاستغراب فهو حياة نور بعد الاغتصاب، هل كانت كل ما تطمح له فسخ الخطبة؟ لماذا لم نرَها تهتم بموضوع العذريّة؟ ماذا عن تداعيات تلك الحادثة المروّعة؟ من هذه المرأة الـ "هِرَقْليّة" التي تستمر بعد اغتصابها في عاداتها اليوميّة بدون نوبات هلع/ غضب أو كوابيس دون اللجوء لمعالجٍ نفسيّ!، بل تجد أيضًا المزاجَ الكافي للرقصِ بين المخمورين!، هل كان غمر جسدها في البحرِ بالـ "كومبليزون" الأسود كافيًا لخلاصها!
أمّا خجل زياد من تقديم ليلى لعائلته بسبب نمط حياتها، فهذا لا علاقة له بالانفتاح، إنّ رفض الشريك/ة للآخر المتعاطي للكحول والمخدرات والمتأقلم مع حياة اجتماعية مفتوحة على كل شيء، ليس بالضرورة أن يأتي من عقليّة متحجّرة، هذه خيارات شخصيّة متشعّبة ولها ارتباط بأكثر من وجهة نظر، فما يصلح للحب ليس شرطًا أن يصلح للزواج، امرأة ذكية مثل ليلى كان يجب أن تعي ذلك، وأمّا اعتقادها بأنّ زياد رجلًا مختلفًا عن أقرانِه لأنّه قادمٌ من أمريكا ففكرة ساذجة، تنتمي لحقبة سياسيّة واجتماعيّة انتهت مسبباتُها وظروفُها منذ مدّة ليست بالقصيرة.
وفيما يخص سلمى وعائلتها فإنّ رد فعلِ الأبوين بعد الاكتشاف المُباغت لمثليّة ابنتهما قد يواجه أي مثليّ/ة بصورةٍ أو بأخرى في أي دولة أكثر "تحضرًا" من الشرق الأوسط!، كما أنّه لا يوجد أي مسوّغ درامي يجعل سلمى تصطحب دُنيا للقاء عائلتها، إنّه سلوك فتاة قادرة على تعريف أسرتها بحبيبتِها، فهل كانت سلمى غير متأكدة من موقف والديها نحو مثليّتها؟ هل كان ذلك هدف دعوتها لدُنيا؟ بالتأكيد لا، لماذا قامت بذلك إذن؟ الإجابة الجاهزة: ركاكة السيناريو!
هذا بالإضافة إلى الطريقةِ المكشوفةِ التي أوقعت بها ليلى وسامًا في جُرمِه، لإجباره لاحقًا (في موقف السيارات أيضًا) على فسخ خطوبة نور، طريقة تذكّرنا بالبطلِ في مقاولات التسعينيات حين يفضح تاجرَ المخدرات الداهية بتنكّره الكاريكاتوري، أو بد. أسامة (عزّت العلايلي) وهو يصرفُ الجنيّ الخبيث جلال (عادل إمام) بعد أكثر من ساعتين من "التدويخ" عن طريق تلاوة بضع آيات قرآنية فقط!
لا يخلو الفيلمُ، أيّ فيلم، بالطبع من مميّزات فنية، لدينا في "بَر بَحَر"، على سبيل المثال، تحوّل صوتُ نتف شعر العروس بالحلاوة التقليدية إلى صوتِ الرصاص، والعجوز تُحيط بساقها كما تُمسك ربة البيت المتمكنّة بجناحِ طائرٍ خائفٍ، وكذلك تغليف بعض المشاهد بأغنية "عزيزة" لياسمين حمدان التي تقول فيها: "يا حبيبتي جرّبي، لأ مقدرشي".
اجتهدت ممثلاتُ الفيلم الرئيسيات قدر الإمكان، الممثلة منى حوّا بها تلك الفتنة القادمة من الداخل، تحب أن تراها طيلة الفيلم، شعرٌ مُدهشٌ فوق جسدٍ مرسومٍ، شادِن قنبورة تحمل عينين متسائلتين على الدوام، وملامح فلسطينية حيّة، سنا جمّالية، في أول أعمالِها السينمائية، تشبه دورَها للغاية، وكأنّها قامت به مئات المرّات.
هنري أندراوس أيضًا قدّم دورًا جيدًا كشابٍ متديّنٍ أكثر لزوجةً من ذُبابة ديفيد كرونِنبِرغ!
إنّ ردود الفعل الغاضبة، وكثرة التهديدات، والضغط النفسيّ الناتج عن ذلك، يستنزفون صانعَ الفيلم، لكن لا يعني بالضرورةِ أنّ المُنتَج الفنيّ، موضوع التهديدات، يزنُ كثيرًا في ميزانِ الدراما أو ميزانِ القضايا الاجتماعية أو كليهما، لقد غاب عن حمّود، كما غاب عن غيرِها من قبل، أنّ الضجّة التي يُحدثها مجتمعٌ تثير جلده المتقرّح نفخة هواء، قد تكون مضللة، وغير دقيقة، وليست معيارًا وحيدًا و/أو حقيقيًا للإحراز السينمائي المُستحق، وليس أكثر ضبابية من الاعتماد على ردود فعل المجتمع المُحافظ إلا الابتهاج بردودِ فعل الجمهور الغربيّ الذي لا يرى الشرق الأوسط إلا من شقٍ واحدٍ ممل ومُحاصِر!
الهجومُ، واستصدارُ الفتاوى، والتهدُيد بالقتل والاعتداء، يجلبون الشهرة، ويزيدون عدد المشاهدة، ويرفعون رغبة المنتجين في الاستثمار، ويثيرون شهيةالصحافة العالمية، وبالتالي ارتفاع التقييم في المواقع المعنيّة، لكن ما دخل هذا بالسينما وجماليّاتها؟
على مستوى الدراما فـ"بَر بَحَر" فيلمٌ هشّ وغير متّزن، وعلى مستوى قضايا النساء، فهو يلوك علكة قديمة، فقدت طعَمها وليونتَها، إنّه أمر محيّر وحالة مُلتبسة حين يقوم صانعُ الفيلم بتحدي المجتمع عن طريق استعارة عُقدِه، و"العيش في جلبابه"، واستعراض "أكوادِه" الأخلاقية نفسها، فتأتي النتيجة، مخيّبة، ومتوقعة، ومعروفة، كأن تصوّر مشهدَ اغتصاب (وسام ونور مثلًا) في مجتمع يختزل النساء في تلك المهمّة أصلًا، وفي ذلك الفراش تحديدًا، وبالتالي تنخرط في دورٍ مازوخي، يُرضي قسمًا كبيرًا من هذا المجتمع المُعتلّ الذي "يُسلطن" وهو يُشاهد "العفيفات" يُغتصبن، فيخرج صانعو الفيلمِ بجائزة يا حبذا لو كانت دوليّة، والمشاهد بانتشاءة، والمُنتج بأصفارٍ في حسابه البنكيّ، وقضية النساء صفر اليدين، كالعادة!
تقول ميسلون حمّود أنّ هدفَ الفنّ "المنيح" إثارةُ الجدلِ، وفي رأيي هذا طموحٌ شديدٌ التواضع، واختزالٌ مُسيء للغاية، وفي رأيي أيضًا أنّ تقديم فيلم دراميّ مُتقن ومحبوك بقصةٍ "عادية"، لا يُناطح التابوات ولا يستدعي الهجوم ولا يُناصر الأقليّات، أفضل بكثير من تقديم عمل "نُص نُص"، يصفه أصحابُه بأنّه نسويّ، بينما هو يعيد إنتاج المشاكل بأقنعة الحلول!
لا شيء أكثر إساءةً للقضايا الثقيلةِ من تقديمِها بحواملٍ ضعيفةٍ، بفيلمٍ مسلوقٍ لا يُسمن الدراما ولا يُغني القضيّة، لا هنا ولا هناك، فيظلّ عالقًا في وضع التردد والمنتصف، أو كما ينصّ اسم الفيلم، في حالة الـ "بَر بَحَر"!
هدى جعفر
هدى جعفر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق