الخميس، 5 سبتمبر 2013

A Short Film About Love (1988) فيلم قصير عن الحب



إخراج : كريستوف كيشلوفسكي
كتابة : كريستوف كيشلوفسكي
بطولة : Grazyna Szapolowska, Olaf Lubaszenko, Stefania Iwinska 
أعظم ما صنع عن الحب

الحب .. 

كثير من الاشياء قد ارتُكبت باسمه .. جرائم ومآسي ، كلها مطوقة به . 

قتل ، انتحار ، انتقام ، حروب ، هروب ، تضحية ، تعذيب ، استسلام ، خضوع ، موت . 
كلمة واحدة ، هي التي انبثقت منها جميع تلك الاشياء .. كلمة مجهولة المصدر ، غامضة المعنى ، هلامية الشكل ، متبدلة الهيئة والصورة .. الحب ! 
تقييمي


ما هو الحب حقيقة ؟ 
أعني ما هو في شكله الحقيقي ، دون أقنعة المثالية ، دون أوهام النفس ، دون الخداع الذاتي ؟ 
إنه سؤال تعاقب عليه الشعراء من هوميروس إلى أدونيس ، وكتب فيه الروائيون من دي سيرفانتس إلى موراكامي ، وتفلسف فيه الفلاسفة من سقراط إلى برتراند رسل . 
هل هو بالفعل شعور هلامي ينتاب الروح ، يعتصر القلب ، ينتفض في حنايا النفس ؟ 
أم أنه مجرد وهم مختلق ، تركيبة من أشياء حسية مفهومة ، نطلق عليها اختصارا كلمة عشوائية "الحب" ؟ 
للجميع توجهات مختلفة في الإجابة عن هذه الأسئلة ، أغلبها منطلق من شخصية المجيب : المتشائم والمتفائل والحالم والعاطفي والجلف واللامبالي . 
إنه يبدو في إجاباتهم كـ "السائل اللزج" ، يتشكل حسب القالب الذي وضع فيه ! 
ولذا فلا يمكن إيجاد تعريف دقيق له .. حسبنا بما نجده في الآخرين من نتائجه وإفرازاته . 
ولكن حتى الآخرون يختلفون في مواجهته ، وهنا تعقيد آخر .. فمنهم من يخاف منه ، ومنهم من يواجهه ويطمح له ، ومنهم من يتعافى سريعا منه ، ومنهم من يتحطم بمجرد انتهائه . 
تومك الشاب اليافع ، بطل الفيلم ، يجد نفسه فريسة للحب ، ولكن بدون كتلوج ، بدون إرشادات أو توجيهات ، ألفى نفسه في كهف مظلم فأخذ يضرب بخطاه عشوائيا مندفعا ، الجدران تطبق عليه ، والظلام يعبث في عينيه ، والتجربة تخونه وتحبطه . 
ليس له أي علاقات بالفتيات ، ولذا فهو يخاف من التجربة ويخشاها كما يخشى الإنسان أي تجربة جديدة ، وحينما يقع في حب امرأة أكبر وأكثر امتيازا منه ؛ يجد نفسه في موقف الضعيف .. زيادة على ضعفه الأصلي في هذا الجانب . 
هو الآن يقف أمام معضلة كبيرة ، عاجزا أتم العجز ، بلا قوى تُمكِّنه من الفعل ، أو حتى إبداء المشاعر الصادقة التي يمتلكها .. ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع النسيان ، إنه مقيد بقيود حبها الثقيلة ، يبدو كالكلب المشدود بحبل مربوط في صورتها ! 
إنه عالق في الوسط .. بلا حلول أو تطلعات .. البحر من خلفه والعدو أمامه ، فأين المهرب ؟ 
يجد أخيرا في مراقبتها حلا يتصبر به ، يروي به شيئا من شغف حبه الظامي ، ولا يحتاج معه إلى مصارحتها أو مجابهة التجربة المخيفة ، يهرب من مشكلته عن طريق ترصدها كحل وسط ، يرضيه في كل الجوانب .. 
ولذا يخاطر بنفسه ويسرق منظارا ، وتصبح مهمته الأثيرة مراقبتها من نافذته وهي في شقتها . 
يقفل ضوء الغرفة كي لا تراه ، يجلس على الكرسي بخبزة مدهونة بالجبن .. هي عشاؤه ، تطوقه جيوش الظلام ، وتزحف نحوه أدخنة السكون الموحش .. العالم كله يجتمع في المنظار ، في الصورة التي تأتي من فتحته الصغيرة . 
أصبح يراقبها في كل حالاتها ، حتى صار يشعر بأنه يعيش معها ، بأنه جزء منها .. يغار حينما يراها برفقة رجل آخر ، ويتألم حينما تبكي فيجرح ساعده أملا في إيجاد ألم أكبر يُنسيه ألم بكائها ! 
يضحك حينما تضحك ، وينام حينما تنام ، ويبدو العالم بكل ما فيه أسيرا في ثكنة شقتها ، ومداركُ الوقت أصبحت مقترنة بها .. فلا تدور ساعة الدهر إلا في حضورها . 
مراقبتها = حياته 
هذا هو تومك بكل اختصار .. شخصيته وافكاره وأحلامه ورغباته وظنونه وشكوكه وهويته تتلخص في كلمة واحدة : الحب ! 
هل هو هوس ؟ 
ربما .. ولكن تومك يؤمن بأنه الحب . 
هل هو مرض ؟ 
ربما .. ولكن تومك يؤمن بأنه الحب . 
هل هو جنون ؟ 
ربما .. ولكن تومك يؤمن بأنه الحب . 
لا يهم أبدا ما يظنه الآخرون .. ما دام تومك يؤمن بأنه الحب ! 

"مقال أخر بقلم مهند الجندي"
عن الحب، عن السينما وعن كيشلوفيسكي.

كل شيء في (فيلم قصير عن الحب) للمخرج كريستوف كيشلوفيسكي يرمز للطريقة التي انتهجها صانع الأفلام البولندي في التعبير عن خلجاته النفسية ومعتركات حياته التي يعتمد على الملتقي أن يلتقطها من دقائق أعماله النادرة بنهجها السينمائي وتأثيرها في قريرة المشاهد، تلك التي يثق كيشلوفيسكي أن نفسرها بقدر ذكائنا وعاطفتنا وعشقنا لسينما أكبر وأهم بكثير من أي كلمات.

يقول المخرج: “إنها قناعة راسخة في نفس المرء إن كان ثمة شيء يجدر تحقيقه من أجل الثقافة، فإنه يكمن حتماً في لمس الموضوعات والمواقف، التي تربط بين الناس، وليست تلك التي تفرق بينهم. فهناك أشياء كثيرة جداً في العالم تفرق بين الناس، مثل الدين والسياسة والتاريخ والوطنية. وإذا كانت الثقافة قادرة على فعل أي شيء، فهو إيجاد شيء يوحدنا جميعاً. وهناك الكثير منها. لا يهم من أنت أو من أنا، فإن تألمنا من أسناننا، فهو الألم نفسه. الأحاسيس هي التي تربط الناس ببعضهم، لأن كلمة “الحب” تحمل نفس المعنى لدى الجميع. مثل “الخوف” أو “العذاب”. جميعنا نخاف بنفس الطريقة ومن نفس الأشياء. وجميعنا نحب بنفس الطريقة. ولذلك أحكي عن مثل هذه المواضيع، لأنني أجد تفرقة فورية في باقي الأشياء.”

تعرض أحداث الفيلم، الوصية السادسة من سلسلة أفلام قصيرة قدمها المخرج أولا للتلفزيون تحت عنوان “الوصايا العشر” سنة 1989، قصة شاب في التاسعة عشر من عمره اسمه “توميك” يعيش يتيماً في بيت جدته، يعمل في مكتب البريد ويواظب على مراقبة رسّامةٍ اسمها “ماجدا” عبر منظاره من شقته المطلة على شقتها، المرأة لا تحتشم بشيء من جسدها أو بيومياتها الجنسية مع رجل تعاشره مراراً، طبعاً دون علمها بمراقبة توميك لها، أو تدخله بحياتها عبر الهاتف وصندوق بريدها. ولأن كيشلوفيسكي كعادته لا يكترث حقاً بقصة على الورق، أو بحبكة يتتبعها المشاهد، يخضع هذا الفيلم لرؤية الجمهور وبصيرته النافذة في تفسير ما تمليه عليه الشاشة من أدوات نبدأ بترجمتها منذ المشهد الأول.  

النهج التأملي الحالم لهذا البولندي ترك تأثيراً غير مسبوق في النسق السردي السينمائي عموماً، وهنا تحديداً، يضع شعور الحب كمادة خام مرهفة لا تعبر عن ذاتها بأي حوار بل بما تجده أنت في أعين الشخصيات ولمسات أياديهم؛ كالمنظار الذي “يسترق” به توميك النظر إلى ماجدا، الـ”مسروق” أيضاً، يشير لبعده عنها وتوقه لمجاوراتها، واستراق النظر و”المراقبة” بحد ذاته هو ما يفعله المشاهد في السينما، ما يلتقطه المرء أثناء متابعة العمل، هو انطباع سائد ينتهي حين تنتهي مجريات القصة، لكن أثره يبقى إلى الأبد.

توميك، كما نلحظ يديه المضمضة في اللقطة الأولى، كان يضحي بحياته حتى قبل ملاقاتها، فيؤذي نفسه كلما عاشرت ماجدا أحداَ ما، ويشيح بنظره عبر المنظار وهي تفعل ذلك، وحين تحطم ماجدا عالمه وتقول له أن الجنس هو حقيقة الحب، ويحاول الانتحار على إثرها، تدخل أخيراً إلى غرفته وتنظر في روحه عبر منظاره، وتشاهد الحب الذي تحدث لها عنه. لا تعبر هذه المشاهد عن الوحدة والحب والعلاقات البشرية وحسب، بل كذلك عن علاقة المخرج بالسينما والوصايا العشر والضغوطات الاجتماعية الشرق أوروبية، وعلاقته مع المشاهد على وجه التحديد: المشاهد هو الفيلم دائماً. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Unfrosted 2024