الخميس، 26 سبتمبر 2013

ألوان كيسلوفسكي


إذا ألقينا نظرة خاطفة على سينما كيسلوفسكي المحدودة العدد ، العظيمة القيمة .. سنجد أنها لاتختلف بإختلاف إيحاءاته فقط ، بل لإعماله كل مايُتاح له من أدوات سينمائية .. سينما كيسلوفسكي هي سينما الإيحاء الأولى ، ولايُجاريه أحدٌ في هذا ..
كيسلوفسكي هو الفنان الذي يُعبِّر عن شئ ٍ لاتستطيع أنت التعبير عنه .. إنه يتطرق لأشياء تخصك ، يتعامل معها كأنك هو !
فالفكرة الرئيسية التي تجبُن أنتَ في الإفصاح عنها ، هي ذاتها الفكرة التي يُصارحك بها .. وتكون محور حديثه ، إنه يضعك أمام شكوكك ، ويعرضها أمامك .. يواجهكَ بها، وانظر ماذا أنت فاعل !



شاهدتُ هذه الثلاثية بترتيب مُختلف ، أزرق ثم أحمر ، ثم تلاه الأبيض .. ثلاثية الألوان هي إنتصار شخصي لكيسلوفسكي ولسينما الإيحاء في العموم ؛ تلك السينما التي تعتمد في طريقة سرد أعمالها على نحو ٍ مُبسط من الحوار ، يتخلله رمزيات دقيقة ، قد وقد لاتُلاحظها وهذا لو علمت .. لايُشكّل فارقاً ، سلني لماذا أخبرك !
- لماذا ؟
- حسناً ، أنت تتلقى الفكرة كلها كقوام واحد متماسك ومتجانس ومترابط مع عناصره المتشابكة ، تفوتك هذه فلاتشغل بالك ، تقفز من على هذه .. لايهم ، فأنت تمتص كل هذه المُدخلات وتتعامل معها بشكل ٍ لاواعِ ، تدريجياً وبشكل ٍ ما لاتفقهه أنت ولاتتوقعه بالطبع تبدأ في إستبطان هذه الأشياء ، بل وأحياناً تتعامل وتستجيب مع المُتغيرات والحوادث التي تتطلب معرفة ذاتية بهذه الأمور دونما شعور منك وإحساس سابق بمعرفتها .

طالت المقدمة بعض الشئ ، ولكن ، كان لابد منها على أية حال ..
..........


لنبدأ بـ "أزرق" ..كما الكثير كنتُ أنا ؛ أحببتُ هذا الجزء من الثلاثية كما لم أحب غيره ، وعشقتُ هذا الجزء كما لم يحدث مع غيره .. هذا الجُزء هو تعبيرٌ صادق وملموس ، محسوس بكل جوانبه وبكل ظروفه وحوادثه وآدواته وآداءاته .. كل مافيه تمام .
أعتقد أن هذه المسألة ترجع إلى علاقة الممثل نفسه بجمهوره ، أو مشاهدينه .. قدرته على تأثيره فيمن يُقابله ، مُحاكاته للظروف وإحاطته بكل الحوادث ، تجعل من تقمصه للشخصية آداءاً غير محدود العطاء .. وتأثيراً لايُنافس فيه ، ولايُعاب عليه فيه .

ماذا يُريدُ النساء ؟ هل يعرف الرجال ماذا تُريد النساء ؟ .. بالطبع لايعرفنْ ، وليس هذا راجعٌ إلى غباء الرجل وعدم إكتراثه بالنساء ومحاولة فهمهن ، ولكن هذا لأنه يتعامل مع كائنٍ لايفهم نفسه بالأساس .. فكيف يفهمه المسكين ؟! إن طبائع المرأة وتعاملاتها تشي بأن هذا الكائن الإنساني لايفهمُ نفسه ، لذلك لايستطيع الآخرون فهمه. وعلى هذا .. وُجد رجلٌ ما في دولة تُدعى (بولندا) اسمه (كيسلوفسكي) صحيحٌ أنه ليس جذاباً .. ولكنه يُعبر هنا بشئ يُجيد التعبير به .. يُعبّر بشئ ٍ جذاب، عن تلك الحالة الفريدة في ثلاثيته الخالدة ، يُعبر عن المرأة وطبيعتها .. هل تُجيد المرأة التعبير عن نفسها ؟ أياً كانت الإجابة وأياً كانت الطريقة إلى إيصالها ، فإن كيسلوفسكي يُجيد هذا ويُعبر عنه من خلال فنٍ راقٍ وجميل .. الفن السابع ، السينما !

أزرق ..

* عندما مات زوجها لم تبكيه .. أيُّ النساء تكونُ هذه ؟ تموت عائلتها ولاتبكيها ..

" لماذا تبكين ؟ " هكذا سألتْ الخادمة ..
- لأنكِ لا تبكين !

* تُحدث صديق قديم .. وهي على ماهي عليه من هذا البرود وتلك السماجة التي هي أقربُ منها للوقاحة أكثر منها لأي شئ آخر..
- أنا جولي .. هل تحبني ؟
- نعم
- منذ متى ؟
- منذ بدأت العمل مع باتريس
- هل كنت تفكر بي ؟
- بالطبع !
- تعال ، إذا كنت تريدني !
- الآن ؟!
- نعم ، الآن .. فوراً !
- هل أنتِ متأكدة ؟
- نعم !

* هي لحظة ٌ من لحظات الأنثى المُتفردة ، تلك الغريزة التي غُرستْ فيها ، هذا لاينفي ولائها لزوجها .. ولكنها ككل الإناث تحتاج إلى مثل تلك الأشياء .. تحتاج أن تشعُر بأن زوجها .. حسناً ، كيف أصوغها في لفظة ٍ أكثر تهذيباً ، لنقُل .. لم يمُت !


* عندما وصل ...
- إنني أشعر ..
تقاطعه ..
- أرجوك ، لاتتكلم .. اخلع ثيابك !
كانت لهجتها آمرة كأنها تطلب منه تأدية مهمة ..
وهنا لقطة إحترافية .. تِبعاً لذلك النوع ( سينما الإيحاء ) هذا الذي تفنن فيه هذا العملاق البولندي ، فهو لايُركز على جسد (جوليت بينوش) الساحر .. هو لايهتم كثيراً بإثارة مشاهده .. ستجد في تلك اللحظة التي تخلع فيها جولي قميصها ، يُركزُ على ملامحها الجامدة ، الصلبة ، المُتخشبة .. التي تستعد لأن تسُد حاجة تفتقدها .. لايبدو عليها أي مشاعر بهجة ، أو لذة .. ترَك أيضاً مشهد الممارسة الفعلية ، حتى تُدرك أنت كمُشاهد أن ماسيحدث .. لن يكون سوى إمتداد لهذه الملامح ، والتي برغم جمودها فهي تُعطي إحساساً بمرارة قاسية وعميقة ، إنه مشهدٌ يعلقُ بالذاكرة للأبد !

*
" .. أنا أقدرْ لك ما فعلته لأجلي ، ولكنك كما ترى أنا كباقي النساء ، أعرقُ وأسعلُ .. لايوجد فيّ شئٌ مختلف. جسدي مثل أجسادهن وله إفرازاته الخاصة ! إنك لن تفتقدني .. ستفهم هذا فيما بعد "

جولي لم تكُن تبحث عن شئ ، كانت تُريد أن تعيش كما هي كافية ً مُستكفية بما بقي ليها في تلك الحياة ، ذكرى جميلة ، وهدوءٌ نسبي في المحيط الذي ترامت على شواطئه.

أبيض ..

لا أعرفُ كيف أصِفُ القصة ، ولكنها أكثر مافي الثُلاثية تمرداً على الواقع .. إنه الحب !
سيخرجُ كلامي ، وسيصل إليك على أنه مُراهق ، عابث .. وهكذا الحب ، مُراهقٌ وعابث . لن أحكي لك القصة ، أنت إن كنتَ شاهدت الفيلم ستعرفها ، شخصياً لا أستطيع سردها ـ على غير العادة ـ لأنها تؤلمني في الحقيقة .. قد يكون هذا الجزء هو الأكثر ثراءاً والأكثر عاطفة ً وحيوية ، ورغم قلة المشاهد التي تظهر فيها جولي ديلبي " الأنثى " إلا انها مهمة وفارقة للغاية ، وهي عظيمة ..

هناك لقطة في هذا الفيلم لم ترُقني كثيراً ، ذلك المشهد ـ في بداية الفيلم ـ الذي ترجع فيه " جولي ديلبي " فتجد زوجها ، أو على نحو ٍ أدق .. طليقها ، نائماً .. حتى نصل إلى تلك الجزئية التي يُحاول فيها إستمالتها جنسياً له ، وتميل هي إليه ونرى في تلك اللحظة أنها مستسلمة له وكأنها تُريده بالفعل ، وكأن ماكان بينهما قبل بضع ساعات لم يكُن .. في الحقيقة المشهد رمزي أكثر مما هو واقعي ، لستُ ضد الرمزية .. كيسلوفسكي هو من أكثر المُخرجين الذين يعملون على هذا النحو المُكثف من الترميز المُتعمّد في أعمالهم .. كان ـ على غير ماهو مُناسب للمشاهد العادي ـ الأفضل لي ألا أرى هذا المشهد وتنطِق فيه جولي بكلماتها المعنية ..
" أنت لاتفهمني .. أنا لا أريدك ولكنني أحتاجك "
هذه جُزئية مفهومة جداً ولاتحتاج لكثيرٍ من الشرح ، وإن كنتُ سأضيف تعقيباً عليها فيما يلي .
في الحقيقة ، أنا أرى دائماً أن مايُريده الواحد منّا هو أعظم وأكبر وأفضل مما قد يحتاج ، فالإحتياج سدّ ، والإرادة كمال .

سأخبرك شيئاً لم أحدث به نفسي ، ولم يخطر على بالي إلا في تلك اللحظة التي مارستُ فيها عبادة الحروف وبدأت يدي تزحف على المفاتيح لأنقل لك أفكاري ، المُبعثرة والمُنظمة .. هذا يختلف بإختلاف تأويلك ، شخصياً لا أفكّر في هذا ، لأنني لا أعرفُ كيف أكتب .. أنا حتى لا أفكر في الكلام .. أعرفُ أنني أذكى شخص أعرفه ، لكن ليس معنى هذا ألا أفكر .. عليّ أن أفكّر قبل الحديث بعد هذا .. حسناً ، أعِدك .
آسف .. نسيتُ هذا الشئ الذي أردت إخبارك به !

أحمر ..

هذه الإيرين جاكوب تلك الفاتنة بوداعتها ، بلُطفها ، ببراءة الطفولة التي تنبعث منها ، هذه الملامح الرقيقة التي تُُخبرك .. أنا طفلة ٌ تحبو ولكنني كذلك أعرف الكثير من الأمور .
أحمر هو الحب ، والحرمان ، السر والمخفي والحركة ورد الفعل ، الجمال والمواجهة ، العدل والظلم .. أحمر هو الأشمل في الثلاثية ، ليس لشئ .. أكثر من أنه تناول أكثر من قضية وتلاعب بأكثر من خيط ، وضرب على أكثر من وتر ..
كيسلوفسكي كالمعتاد .. يقفز على المعتاد ، يتجاهل التقليد ويسرد قصة حياة شخص فقد كل مايملكه في هذا العالم ، وكل مايُمكن أن يربطه بهذا العالم .. يستعيد هذا الربط ، بخيطٍ ضعيف هو يعرف عنه ذلك ، كما يعرف الخيط نفسه .. فتاة واهنة ، ضائعة في حب شخصٍ لايثق بها ولاتثق من حبه لها ، البعض يفضل أن يخرج من العلاقات ك " ضحية " حتى لايكون تحت وطأة الشعور بالمسئولية ، يُفضل أن يكون مظلوماً على أن يكون ظالماً .. تحت شعار " يابخت من بات مظلوم ولابات في ليلة ظالم " أسلوب خاطئ لتبرير الجُبن بالتأكيد .. قد تكون هذه الصورة التي أتخيلها قريبة إلى أحداث الفيلم ونهايته المؤلمة ، أو يكون العكس ، أو يكون شئ آخر ، فكما هو المعتاد من كيسلوفسكي يضعنا في حيرة لا نعرف لها سبباً ولكننا في النهاية نحسد أنفسنا أنْ خُضنا هذه التجربة ..

في الفيلم لمحة جميلة جداً ولقطة رائعة ومتميزة رغم أنها لم تتجاوز 15 ثانية .. حين يجلسان سوياً ويحتسيان قهوتهما .. نُلاحظ أن إحدى الكوبايات تهتز بداخلها القهوة ، أمّا الأخرى فهي ساكنة ، هادئة ..
في إهتزاز القهوة هذه تذبذب .. توتر ، قلق مما سيحدث ، أحدهما ذو نفس مستقرة ، والآخر مرتبك .. مشاعره مترددة غير صريحة لايستطيع أن يُطلق لنفسه العنان ويقول لها ( أحبك ) برغم أنه أراد قولها ، برغم أنه أرادها .. اشتهاها ولم يُبدِ لها شهيته ، أحبها وحاول أن يكتُم مشاعره ، أهذا مايُسمونه .. الحب العُذري ؟
لا أعرف لهذا تسمية ولا أحب تسميته .. فالحب هو الحب !
وهذا إحتمالٌ مقبول ، ومعقول إذا ماحاولنا تطبيقه على الرجُل ، أمّا إذا حاولنا تطبيقه عليها فإن فضولها الأنثوي هو الذي يُربكها ، مشاعرها مُهتزة .. منْ هذه المرأة التي يُحبها ؟ ماقصة الحلم الذي حكاه لها ؟ ماهي تفاصيله ؟ لماذا أصلاً يحلم بها ؟
كل هذه إحتمالات مقبولة .. علينا كمشاهدين ، أن نُصدقها كلها .. فكل هذه الأطروحات واقعية لاشك في ذلك.

الألوان لها دلالات عظيمة ومهمّة وذات إيحاء بالطبع على أحداث كل فيلم من أحداث السلسلة .. مُحدثكم لايعرف عن الألوان الكثير ، ولايهتم بسؤال أحدهم عن الألوان .. لم يدرُسها بالطبع ، سأخبرك بما أشعُر به تجاه كل لون .. صاب هذا أو خاب .. لن أتحدث بروح طبيب النفس ، أو عالم النفس .. سأحدثكم بروح .... نسيت الكلمة المناسبة ، لايهم .. سأترك لها فراغاً حتى أكمل فيما بعد وإن لم أجِد ، لايهم .. أنت تعرف بالتأكيد ما أريد قوله ، أليس كذلك ؟
هذا سؤال جيد ، فالبعض منّا لايُجيد التعبير ، كما أن البعض الآخر .. لايُجيد الصياغة ، لا أعرف أي الأنواع أكون ، ولكنني بشكل أجهله أحوي الطابعين معاً.

أزرق .. كآبة ، حزن ، أرق ، تعب ، قرف ، زهق .. أزرق هو الضغوط والظروف القاسية .. أزرق هو القدر الصعب ، والحظ السئ ، أزرق هو التحمّل والمثابرة والكفاح ، أزرق هو لون الجدار الذي ننظر له حين ننام ، وحين ننظر إلى السقف ، وحين نصحو من النوم .. في غرفة الحياة ،هذا يحدث كثيراً .

أبيض .. هو المرح ، التحرر ، هو الجانب الذي يستحق الحياة ، هو المعاناة التي تتلون بلون البهجة .

أحمر .. شغف ، شغب ، تأمّل ، إستكشاف. أحمر هو الشهوة ، هو اللاممارسة واللاتصريح ، هو التمنّع والرغبة .. أحمر هو أشياء كثيرة لستُ أفهمها ، ولكنني بشكل ٍ ما أشعر بها.

أراد كيسلوفسكي ربط أحداث أفلامه الثلاثة ببعضها البعض ، ربط شخوص عمله ببعضهم .. الرجل يقول لك أن النساء أشبه ببعضهن هم على ذلك ، وهم كذلك.
في النهاية ، أعتقد أن أهمّ ما استخلصته من هذه الثلاثية هو أن ..
الأنثى تعرف عن الحب أكثر مما قد يعرف الرجل ، وتحسًّ به أفضل مما يحسُّ به الرجل .. لكن الرجال يتحدثون عن الحب بشكلٍ أفضل من النساء .

بقلم : Omar Mora

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق