الأربعاء، 29 يناير 2014

The Shawshank Redemption


سأتحدّث اليوم عن فيلم دائما ما يُصَنّف على أنّه واحد من أفضل الأفلام التي أنتجتها هوليوود على الإطلاق.. الفيلم الذي غيّر حياة الكثيرين وبقي عالقا في ذاكراتهم.. هو الذي يستحقّ منّا التحليل والإشادة والمشاهدة والإعادة أيضا .. ففي الحقيقة هو أكثر من مجرّد فيلم..
The Shawshank redemption .. يحكي لنا قصّة ألّفها ستيفن كينغ وتتحدّث عن أندي دوفرين والّذي كان يعمل مصرفيّا بارعا، ثمّ يكتشف في أحد الأيام خيانة زوجته له مع رجل آخر، ويُتّهَم بقتلها ويُزجّ به في السجن مدى الحياة. ثم تدور معظم أحداث الفيلم هناك، في ذلك السجن العتيد .. سجن شاوشانك.

يتميّز الفيلم خصّيصا باحتوائه على العديد من الحوارات الفلسفية العميقة، وتناوله لمواضيع مختلفة تمسّ كل فرد منّا، ومقولاته المؤثرة التي ما زالت تقتبس إلى اليوم. (مع العلم أنّه أُنتِجَ عام 1994)، وسأتناول هذه الروائع في معرض حديثي بالتأكيد. لكنّ كلامي سيكون عشوائيا بعض الشيء، بحيث أتحدث عن عدّة عوامل أو مميّزات للفيلم بدون ترتيب محدّد أو محاور رئيسية.




من أهمّ الأسئلة التي دارت في ذهني بعد أن انتهيت من مشاهدة الفيلم هو: عن ماذا يتحدث بالضبط؟ وما الرسالة التي يريد أن يوصلها لنا؟
معظم الناس يجيبون على هذا السؤال بالكلمة التي انتهى بها الفيلم: الأمل. ولكن هل كان حقّا “شاوشانك” فقط عن الأمل؟ أنا أعتقد أن الجواب هو لا! “شاوشانك” لم يتحدث فقط عن الأمل وإن كان هذا موضوعه الرئيسي ربّما. الفيلم تحدّث عن كثير من المواضيع، ووضعنا في ميادين وأفكار ومشاعر وصراعات كثيرة، منها الحرّية والصّداقة والظلم والعدل والتّصميم والإرادة واليأس والحبّ والخيانة والفرح والنّدم والشّوق والإحباط والإنسانيّة والحزن والسعادة والخير والشرّ والجمال .. والأمل.. وغيرها أيضا. هذا هو أجمل شيء في شاوشانك، بساطته مع تناوله لكلّ هذه القيم والأفكار والمشاعر دفعةً واحدة.. هو سهل ممتنع!
المخرج (وكاتب سيناريو الفيلم عن الرواية الأصلية) فرانك داراباونت يقول: “الفيلم ببساطة عن أنّ في كل إنسان منّا قيمة وإرادة وطاقات وكرامة (وإن دفنتها الظروف والحياة، أو فقدنا الأمل فتقاعسنا عن إخراجها وتصديق أننا نمتلكها فعلا)”.
العنوان الّذي كان في الرواية: “ريتا هاوارث والخلاص من شاوشانك” ثم أصبح في الفيلم: “الخلاص من شاوشانك”، يوحي لنا بأحد تفسيراته الممكنة والواضحة إلى الخلاص والانعتاق الذي حصل في النهاية ل(أندي) بعد أن كان قد سُجِن ظلما أصلا في هذا السجن. كذلك قد تعني كلمة redemption الإصلاح أو تكفير الذنوب، وفي هذا تلميح للإصلاح الذي أحدثه (أندي) في حياة ونفس (ريد) وغيره من السجناء بأفعاله الخيّرة والإيجابية فترة مكوثه هناك. وفيه إشارة إلى الحياة الجديدة التي يبدؤها (ريد) و(أندي) بعد خروجهم من السجن، وهذا واضح في آخر سطور في الفيلم، وواضح أيضا عندما يقول (أندي):
You know what the Mexicans say about the Pacific? They say it has no memory. That’s where I want to live the rest of my life. A warm place with no memory.
وكأنه بدأ حياة مغفورة الذنوب، منعتقةً من ماضيها.

لو أردت أن ألخّص درس “شاوشانك” ببضع كلمات لقلتُ: أن تحرّر نفسك بالأمل. فكرته الرئيسية هو تحرير نفسك من العقد والقيود، وخاصة عقدتي المكان والزمان اللتان “تمأسسان institutionalizing” الإنسان، وغيرها من العقد المادية أو المعنوية. أن تبقى آملا غامرا نفسك بالسعادة الداخلية التي لا تتأثّر تأثّرا كبيرا بما حولها من ظروف خارجية. (ويتضح لنا ذلك في مقاومة أندي لمحاولات تثبيطه ومأسسته، لدى حديثه عن الموسيقى، ووضعه لبوستر في زنزانته، وكذلك انشغاله بالحفر في وقت فراغه، كلها ممارسات ليتخلّص من سيطرة الزمان والمكان عليه ولتجنّب “مأسسة” نفسه).

جودة الممثلين كانت عالية جدا في الفيلم، وبالأخصّ البطلين الرئيسيّين. وأجد من المحزن أن تيم روبنز لم يُرشّح عن دوره هذا لجائزة الأوسكار! والأكثر إحزانا أن الفيلم لم يأخذ الأوسكار في سنته! (لأنه تعرض لمنافسة قوية جدا من أفلام أخرى مثل Forrest Gump و Pulb fiction).
المخرج فرانك داراباونت كان جيدا جدّا، مع العلم أنه هو نفسه من أخرج بعد 5 سنين فيلم The green mile عن رواية أيضا لنفس الكاتب، ستيفن كينغ.

من أجمل المعاني التي تمنحنا إياها بشكل مبطّن شخصية (أندي) في الفيلم هي عمل الخير من أجل الآخرين دون مقابل منهم، وإنّما لأنها أفضل طريقة ممكنة لنفسك أنت قبل أن تكون لهم أصلا. (يقول (ريد) مفسّرا دوافع ما فعله أندي حين تجرّأ على الحديث مع رئيس حراس السجن ثم أثمر حديثه معه عن منح مشروب مجاني لرفقائه في السجن:
(Red: You could argue he’d done it to curry favor with the guards. Or, maybe make a few friends among us cons. Me, I think he did it just to feel normal again, if only for a short while. ).
كذلك نرى بوضوح أن أندي كان خيّرا لا يحبّ إيذاء الآخرين حتى لو استطاع ذلك، وذكيّا في نفس الوقت.

ومن خلفيات الفيلم المهمّة التي تميّز بها، حديثه عن قضية “المأسسة Institutionalizing”، وهي أن تصبح بعد فترة من الزمان، منتميا لمكان معين بصورة لا تستطيع فراقه أو حتى تخيل فراقه (بعد أن كنت ربما تكرهه!)، أي ببساطة أن تصبح جزءا من المؤسسة التي أنت فيها. وهو أمر نستطيع إسقاطه حقيقة على حياتنا بشكل واضح وقصورنا الذاتي واعتيادنا على المحدّدات والمقيّدات المحيطة بنا والتي تمنعنا إلى أن تشلّنا بعد فترة من الزمن عن اكتشاف أنفسنا الحقيقية وقدراتنا وإيماننا بأنفسنا واختياراتنا وحرّيتنا الواسعة. وقد بقي أندي عصيّا على هذه المأسسة وحالما آملا بالحرية مقاوما طوال الوقت، حتى في أشدّ الظروف حلكة.

وخير مثال على تمأسس الذات في الفيلم، “بروكس”! (وهو الذي مثّل لنا بوضوح كيف يشعر المرء بالخوف الكبير بعد مأسسته إلى الدرجة التي دفعته إلى الانتحار في نهاية الأمر، لأنّ حرية كهذه بعد كل هذا الزمن، وانتشال بهذه القوة من المكان الذي عاش فيه طيلة حياته وقُدّر فيه من قبل الجميع، جعله غير متأقلم أبدا مع بيئة أخرى) ومن بعده “ريد” (وإن كان ريد قد تحرّر من هذا الأمر بفضل مساعدة أندي بعد ذلك). ويلخّص عملية “المأسسة” كاملةً قول (ريد):
Red: These walls are funny. First you hate ‘em, then you get used to ‘em. Enough time passes, you get so you depend on them. That’s institutionalized.

يرينا الفيلم أيضا أمرا مهمّا جدا يتوافق فيه مع الكثير من الأفلام الأخرى (مثل “العرّاب”)، حين يعرض لنا قذارة الجهات الرسمية، ممثّلة هنا بإدارة السجن (التي من المفترض أن تكون أنظف وأشرف الجهات في المجتمع، خاصة أنها تعنى ب “إعادة التأهيل”). فمدير السجن ورئيس الحراس وحتى الحراس العاديّون مشتركون في كونهم بعيدون جدا عن الأمانة والنزاهة والصفات الشخصية المطلوبة في مناصبهم والسلطة التي يمتلكونها. ويظهر ذلك جليّا في مدير السجن الغارق حتى آذانه في الفساد والإجرام الحقيقي، بينما نرى كثيرا من “المجرمين” الذين في السجون أطهر وأكثر نزاهة من المسؤولين.
ويؤيّد هذه الفكرة بشكل كبير ما يقوله ريد في واحد من أعظم المقاطع في الفيلم كاملا وربما في السينما الحديثة برأيي. حيث يبيّن الحقيقة المرّة لوهم “إعادة التأهيل” و”إصلاح” السجناء. ويوضّح لنا بعمق المشاعر التي تعتمل داخل نفسه وتثير فيه هذا الندم واليأس شيئا ما (والمثير أن هذا اليأس هو الذي منحه فعليا الخلاص لأنه في المرات السابقة كان يقول كلاما مغايرا يدّعي فيه أنّه شعر بإعادة التأهيل). هو مقطع يلخّص حياته منذ تغيّرت بذلك القرار الطائش الذي أودى به في السجن.

كذلك حتى قضية سجن أندي رغم أنه بريء توضّح لنا كيف أن العدالة ليست دائما موجودة في القضاء. ويشير أندي لهذا الأمر حين يقول لصديقه ريد:
The funny thing is – on the outside, I was an honest man, straight as an arrow. I had to come to prison to be a crook.

أي أنه لم يتعلّم كيف يخادع ويحتال إلا عندما أتى للسجن، بينما كان خارجه رجلا مستقيما وصادقا تماما. ومن المثير للسخرية أنّ أندي سُجِن بشكل قانوني (ظاهريا) غصبا لكن دون حقّ ثم خرج من السجن بشكل غير قانوني (غصبا أيضا) لكن بحقّ. بينما دخل ريد السجن بقانونية وخرج بنفس الطريقة بعد أقل بقليل من نصف قرن.

نلاحظ أيضا بعض التلميحات الدينية في الفيلم (وإن كان المخرج داراباونت ينفي علاقة الفيلم بأيّ إشارات دينية). ومن أكثر الأمثلة وضوحا لاستخدام الترميز الديني ما قاله المدير نورتون لأندي وهو يمسك بالإنجيل ” The salvation lies within”، وهي جملة لسخرية القدر كانت صحيحة ولكن بشكل آخر. فقد كان “الخلاص والحل” في ذلك الكتاب فعلا (الإنجيل)، حيث خبّأ آندي أداة الحفر الخاصة به ليبقيها بعيدة عن اكتشاف الحراس ومسؤولي السجن!
أيضا، يقول مدير السجن في موضع آخر وهو يخاطب السجناء الجدد:
Warden Samuel Norton: I believe in two things: discipline and the Bible. Here you’ll receive both. Put your trust in the Lord; your ass belongs to me. Welcome to Shawshank

وفي هذه المقولة معنى مخفيّ وعميق، حيث يقول مدير السجن للسجناء الجدد أن يثقوا بالله، بينما هو يمتلك أو يتحكّم فيهم هنا في السجن. وفي هذا تلميح إلى الفهم الملتوي للدين لدى المدير، وكأنه هو الأداة التي يستخدمها الله في هذه الأرض ويطبّق بها سلطته.. وكأنه ظلّ الله في هذا المكان، وهذا ما يعطينا شيئا ما من الممكن أن نسقطه على كثير ممن يعتبرون أنفسهم الممثلين الحصريّين لمعتقادتهم. وحقيقةً، فنورتون كان منافقا يدّعي أنّه متديّن ومؤمن ليستفيد من هذا الادّعاء ويضفي على تصرّفاته طابعا أكثر شرعية بسبب مظهره الإيماني السطحي. ورأينا قذارته من خلال نفاقه ورشاويه وتعامله الأناني والدنيء مع آندي (وهو الذي مثّل بدوره تديّنا طبيعيا وإن لم يظهر ذلك جليّا) بتصرّفاته الخيّرة وعمله على إصلاح الآخرين وعدم إيذائهم.

البعض بالغ في إعطاء الرموز الدينية دورا وأهمية، حيث شبّهوا خروج أندي من نفق القاذورات إلى الماء وحريته ببدء حياة جديدة من خلال التعميد، أو قيام المسيح بعد موته.. وكذلك فعلوا في عدة مشاهد أخرى. لكن البعض الآخر أيضا قال أن الفيلم في الحقيقة يسيء للدين ولا يعطي صورة جيدة عنه، بتلميحه إلى أن الإصلاح في النهاية هو إنجاز بشري لا دخل للدين فيه (ويستندون في ذلك إلى وضع أندي أداة الحفر في الإنجيل، وغيرها من الشواهد الأقل قوة). ويظلّ الخلاف مستمرا على كل حال، إلا أنني شخصيا أرى أنه لم يسِئ إلى الدين بل على العكس.

نقطة التحول المهمة في الفيلم بنظري هي عندما أصبح (أندي) المحاسب المالي الرسمي تقريبا لكل من في السجن. فقد أخذ مكانه الّذي مكّنه من أن يصير بهذه الأهمية والموقع الحسّاس في بيئته. وهذا كله ما كان ليتحقق لولا جسارته وجرأته على أن يذهب ويغامر للكلام مع رئيس حراس السجن ويعرض عليه القيام ببعض الأمور المالية التي قد تفيده. وهنا درس مهم جدا يحثّ على الاستفادة من الخبرات والإمكانيات التي عندنا في أي بيئة كنّا، وأن نحاول انتهاز الفرص لإفادة الآخرين والإصلاح العامّ، والشعور بنفع الذات، والسير ولو خطوة إلى الأمام للوصول إلى ما نريد.

من الشّواهد الأخرى على تصميم أندي وعزيمته الكبيرة هو عمله من أجل مكتبة السجن، وكتابته للرسائل المتواصلة أسبوعا بعد أسبوع لسنين وسنين، إلى أن تحقّق له مأربه ونالت مكتبة السجن مخصّصات سنوية جعلت السجن يصبح مكانا آخر تماما. أيضا من الأمثلة على حبّ أندي للخير ومساعدته للآخرين، تعليمه للسجين الشابّ ومساعدته للحصول على شهادة وهو يدرس في السجن، والاستمرار في دعمه وتشجيعه بشكل متواصل إلى أن نجح في امتحانه ونال الشهادة (رغم أنه مات بعد ذلك نتيجة جشع وحقد المدير نورتون).

من جهة أخرى، الموسيقى كانت تنساب بشكل جميل مع مشاهد الفيلم ببطئ كما يجب، وأضفت عاطفية أكثر على ما نراه من لحظات مؤثرة خلال الفيلم. وهي بالمناسبة من إبداع توماس نيومان.

بقلم   (مجد السليتي)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق