الثلاثاء، 31 يناير 2017

The Past (2013) | Drama, Mystery


The Past Poster

“عندما تغفر فأنت لا تغير الماضي مطلقاً, لكنك دون شك تغير المستقبل” 




رجل إيراني يعود إلى فرنسا لتطليق زوجته الفرنسية التي في علاقة مع شخص آخر متزوج.

تقييمي 
8/10

من روائع سينما 2013

 مرة أخرى يحشرنا “أصغر فرهادي” في زاوياه العائلية دون أن يصل بنا إلى نتيجة. فحالة المأزق البارد التي يتغنى المخرج الإيراني الكبير بصناعتها, والتي تتكرر تباعاً, ليست في نظري مطلقاً نهاية مفتوحة. فما يريد المخرج إيصاله ينتهي فعلياً عند الحد الذي يتوقف عنده, ففي رائعة “الانفصال” استطاع “فرهادي” ببراعته الحاذقة أن يوصل لنا المطلوب بعنف بارد في المشهد الأخير عندما توجب على الابنة اختيار أحد والديها المنفصلين, وبصرف النظر عن خيارها فقد وصلت الفكرة.. وصلت, وأوصلت الانطباع المراد إيصاله بصرف النظر عن الخيار. نعم “فرهادي” هو سيد وداهية الدراما الأسريّة المعاصرة.
   السيناريو البارع الذي يكتبه هذا الرجل, والذي امتطى صهوة اللغة الفرنسية لأول مرة في هذا العمل, سمة لا تكاد تفارق تفكيرك وأنت تشعر بسلاسة الرواية وإحاطتها بكل التفاصيل. لا تفاصيل إضافية, لكن لا تفاصيل ناقصة.. كل شيء مطلوب موجود. وما عليك إلا أن تشاهد وتستمع. المتعة ليست لأنه “فرهادي” فقط, بل أيضاً بسبب الطاقم الكبير الذي يؤدي الفيلم يستحق كل الثناء الذي انهال عليه بدأ بالرائعة “بيرينيس بيجو” العصبية التي لا تفارق السيجارة يدها هذه المرة, مروراً بـ”طاهر رحيم” صاحب الوجه البارد الذي يصب تباعاً في الفيلم مشاعر فياضة رغم ارتباكه ومأزقه, و”علي مصفّى” الوسيم الذي يحاول التهرب من شرقيته الزوجية وليس حكمته, إلى “بولين بورليه” بدموعها السخية ووجها المربك الحائر المذنب.. إلى الطفلين الجميلين غير المرتاحين.. فماذا حضر لنا “الماضي”.. وهل نبقى أسرى له؟..
   يبدأ الماضي بمشهد فخم عديم الكلام في المطار, نحن لا نحتاج أن نسمع ما يقال, علينا أن نتأمل لنهرب من سماع العبارات الكلاسيكية التي نعرفها ونحفظها في مثل هاتيك الحالات. نحن هنا لنشاهد, لنحس بلهفة تفتقر إلى عناصر اللهفة في لقاء بين زوجين منفصلين منذ أربع سنوات, حيث عاد الرجل لينهي معاملات طلاقه الروتينية لا أكثر. وحين تتحرك السيارة عائدة إلى المنزل, فهي تتحرك للخلف بصورة لا تحتاج الكثير من الذكاء لنعلم أنها مقصودة, فما سيحكم الأحداث هو الماضي وليس القرارات.
   الرسائل الإلكترونية “الإيميلات” أخذت حيزاً واسعاً من القضية لتكسبها طابعاً معاصراً, فالزوجان المشغولان (وربما غير الراغبين بالكلام المباشر معاً) يتواصلان إلكترونياً. ليس في اللقاء حنين واضح, ولا مشاعر فياضة, ومحاولات أي منهما إلى تذكار الآخر بأشياء من ماضيهما المشترك كانت تمرّ كابتسامات صفراء على شفاه جافة غير راغبة في الابتسام أساساً. فـ”ماريان” أو اختصاراً “ماري” (قامت بالدور بيرينيس بيجو) الزوجة الفرنسية والصيدلانية راسلت إلكترونياً زوجها “أحمد” (قام بدوره علي مصفى) بغرض العودة لإتمام إجراءات طلاقها بعد أن هجرها عائداً إلى “إيران”, وبين إصرارها على أنها أخبرته بوجود العشيق “سمير” (طاهر رحيم) ورغبتها في الارتباط به, وإنكار “أحمد” استلام رسالة منها بهذا الغرض, منذ هذه اللحظة نبدأ نسأل أنفسنا عن مدة موثوقية استلام الرسائل الإلكترونية ومقدار التلاعب بها.. ثم نرى الأطفال الصغار “ليا” ابنة “ماري” و”فؤاد” ابن “سمير” يبدوان كصديقين, لكننا لا نحتاج إلى أي قدر من الذكاء لنعلم أنهما طفلان غير سعيدين. فالأخت المراهقة “لوسي” (بولين بورليه) تفسد أجواء أسرة “ماري” بغياباتها المطوّلة عن المنزل, وسرعان ما نعرف أن أم الطفل “فؤاد” زوجة “سمير” قابعة في المستشفى بين الحياة والموت, في غيبوبة لا تبدو قادرة على النهوض منها وفق المعاينات الطبية.
    تعقيدات القصة (دون ذكر تفاصيل تفسد المشاهدة, ومن المفضل لمن يشاهد أن يقفز هذه الفقرة) تبدأ عندما نعلم أن “لوسي” غير راضية عن زواج أمها, ونظراً للثقة الموجودة بين “لوسي” و”أحمد” -والرجل الفارسي ليس والد بنات “ماري” بالمناسبة- وبعد إتمام إجراءات الطلاق وهمس الزوجة السابقة لزوجها السابق بأنها حامل من عشيقها, فإنها تلجأ إلى تحويله إلى جندي سلام بينها وبين ابنتها, عسى أن تفلح محاولاته في إقناع الفتاة المراهقة بقبول عشيق الأم عنصراً جديداً في المنزل برفقة طفلة البليد. لكننا نكتشف أن المشكلة قد تجذّرت أكثر, وأن “لوسي” نفسها قد تورطت في الأمر أكثر, وأن دموعها وقلقها من دخول “سمير” إلى المنزل ليست مربوطة فقط برفضه كـ”سافل” بل بسبب شعور غامر وقاهر بالذنب, لا سيما عندما نكتشف أم زوجة “سمير” قد حاولت الانتحار, وأن انتحارها لم يكن غالباً بسبب الاكتئاب الذي يصيبها, بل بسبب إبلاغ معين من “لوسي” عن علاقة تربط زوجها (صاحب محل الغسيل على الناشف) مع إحدى زبوناته وهي أمها. وبين شعور “لوسي” بالذنب والقهر, تطفو على السطح رواية من جانب آخر بطلتها “نعيمة” (الممثلة صابرينا عوازني) التي تقتحم الأحداث كعاملة ذات خصومة مع “سيلين” زوجة “سمير” تعمل معها في ذات محل التنظيف, وتظهر على أنها كانت شريكاً في الوصول إلى حالة الانتحار… ثم ماذا؟ لا شيء.. الكل يقرر نسيان الماضي والانسحاب.. ليس بهذه البساطة, ولكن بعد أن يشعر القدر الكافي من الذنب والاختيارات غير الموفقة التي يتحملها “الماضي”, ويقف الأطفال مرة أخرى متفرجين! ويأتي مشهد النهاية الكبير الذي لا يعطي نهاية لأن ما يراد قوله قد انتهى.
   “بيجو” التي يحاول ماكياجها أن لا يظهرها بالقدر الكامل من الجمال فيظهر رغماً عنه, تؤدي واحداً من أهم وأجمل الأدوار النسائية هذا العام دون أدنى شك, في حَنَقها ودخان سجائرها ومحاولاتها اليائسة لضبط أعصابها, وما يذهلني شخصياً في العمل هو الأداء الكبير الذي تقدمه “بولين بورليه”  والذي يستحق أن يفرد لها دائرة الاهتمام, والتي أتذكرها جيداً من قبل في دور “إيديت بياف الصغيرة”, وقد راقني كثيراً أن بعض النقاد قد سمّوها بـ”ماريون كوتيار” الصغيرة القادمة. وأكاد لا أصدق أن “علي مصفى” الممثل الإيراني قد تعلم اللغة الفرنسية فقط لأجل أداء هذا الدور. قد لا يكون وقع القصة على المتلقي مساوياً أو مماثلاً لوقع قصة “الانفصال”, لكن ببساطة سيشعر المشاهد أنهما من نفس الروح ومن نفس القالب. سنشعر بفوضى المنزل من جديد مع غياب أحد الوالدين كزلزال يهز أركانه, وسنظل في ذات الحالة الشائقة سينماتوغرافياً حينما نجد أنفسنا نتفاعل مع الطبيعة ونحسّ بالجدران والأبواب كأنها تحاصرنا أكثر من الأفلام المعتادة. الأثير بالذكر أن “فرهادي” مرة أخرى لم ينصب نفسه ليدافع عن المجتمع ولا ليلومه, وهذا شيء يجعل أفلامه أكثر قرباً من الناس في كل مكان, ممرراً اللحظات الحرجة بهدوء دون تزويق أو رتوش. ولكن أكثر ما يميز حقاً النص هنا أكثر هو السلسلة المتعاقبة من المفاجآت التي تجعله لا يسير حسب توقعات المشاهد في الغالب, وهو هنا يلقي وراء ظهره حالات التناقص الاجتماعي التي كنا نظن عندما سمعنا بالعمل منذ أكثر من عم أننا سنراها بين رجل إيراني وزوجة فرنسية, ليركز على تقديم شخصياته بصورة المستيقظ من الحلم كأنه كذبة أو وهم لا إدراكي بحاجة تقويم سريع. قد تقولون أن الفيلم تعوزه الموسيقى, إلا أن هذا ليس عيباً فالمأزق العائلي المنشود كان حريّاً به أن نشاهد معه صوت المطر وحفيف الشجر والموسيقى الناعمة النهائية التي زادت المشهد الأخير عاطفيةً. ولستُ أدري لماذا تذكرت “ألمودوفار” على حين غرة وأنا أتابع العمل (وقد تابعته مرات عديدة بالمناسبة كان أولها بالفرنسية فقط قبل أن أعمل على ترجمته), ربما لأنني أحسستُ بميلودرامية معينة تنسلّ بصورة خفية يائسة من تحت جلد الشخصيات. ألوم بعض الشيء شخصية “أحمد” فلا أعتقد أن الرجل الشرقي قادر على التساهل كل هذا القدر في بعض النواحي (كمساكنة رجل مع زوجته حتى ولو كانت تحبّه, أو حملها من آخر وهي على ذمته) لكنني لا ألوم “فرهادي” فكفانا من هذه النظرة القاسية التي كرّسها الغرب كثيراً للرجل الشرقي إلى درجة جرّدته من الإنسانية, بل من الممتع أن نجد عقلانية يُبنى عليها في تشخيص الرجل الشرقي سينمائياً في الغرب.
   باختصار.. ينجح “فرهادي” من جديد.. ورغم الصدامية الثقافية الملغومة تحت السطح, فهو لا يسمح لنفسه بفرض رأيه على المشاهد في منازعاته العائلية, ويحسن استخدام المجتمع والوسط المحيط, ليتركك معلقاً في النهاية مستلذاً, دون أن تشعر أبداً بالإحباط,
مهند الجندي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق