الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

Tokyo Story – 1953

“Isn’t life disappointing?”
ترجمة مهند الجندي عن كريستيان بلوفيلت.
هل فيلم (قصة من طوكيو) هو أفضل ما قدمه المخرج ياسوجيرو أوزي؟ لا يمكنني تحديد ذلك. فحين نتعامل مع أستاذ بمكانة أوزو، تصبح مسألة تحديد درجات متفاوتة من العظمة لأفلامه الخاصة أمراً لا جدوى منه، وبصراحة أيضاً، هذا المديح لا يعنى شيئاً، خاصة بعد تمعن المرء بأفلام أوزو الحريصة كلياً على تفادي العظمة التي تلمح لها العلامات التجارية الجاهزة. وثمة أسباب ثلاثة تشرح سمعة هذا الفيلم كأهم أعمال المخرج: أنه الأكثر مشاهدة وانتشاراً عند الغرب؛ وتزامن عرضه لأول مرة في الولايات المتحدة مع الشهرة البارزة لأسلوب بول شريدر المبهم في العام 1972، مما وضع أوزو إلى جانب مجموعة من المشاهير أمثال كارل ثيودور دراير وروبيرت بريسون كنموذج للسينما الروحانية؛ وأخيراً وصفه بأنه أكثر أعمال المخرج تعبيراً عن فنه.

و، المطلق عليه “أكثر مخرجي اليابان قرباً من الشعب الياباني”، أفلاماً تحكي تفاصيل الحياة اليومية، ومن الصعب نوعاً ما الحديث حول “الحياة اليومية” حالياً حين يتعلق الأمر بالسينما لأن المصطلح بات مستخدماً لدى أولئك أصحاب المساعي السياسية والأسلوبية. فبالنسبة لأصحاب الموجة الجديدة، يوثق هذا المصطلح المعاناة الاقتصادية، والذي نتج عنه وصفاً بائساً حول الحياة على يد بعض السينمائيين التابعيين لهذه الموجة في أيامها المعاصرة. وبنظر محبي السينما المباشرة، فإنهم لا يعيرون اهتماماً لحركة الكاميرا نفسها، وهذا غالباً ما كان يحدث أكثر من حركات الكاميرا البطيئة والتوليفات الزائفة التي تبررها فكرة المخرج بنقل القصة إلى المشاهد بمسمى العفوية.
أما أوزو فلم يكن لديه مساعي من هذا القبيل، فشخصياته عادة ما ينتمون إلى عائلات الطبقة الوسطى الذين لا يشغلون أنفسهم بالمال، وليسوا موضوعاً للعادات اليومية لكنهم مشتركين فيها، وهي العادات التي قد يجدها البعض مملة في حين أنها تشكل عناصر الحياة الحقيقية: خوض مناقشة عميقة – وإن كانت سطحية – مع الجار وإعداد فطور الصباح وتوضيب الغسيل وترتيب الأثاث لإفساح المجال للزوار والتحضير للقيام برحلة. إن حبكة الفيلم من أبسط ما يكون: زوجان مسنان اسمهما شوكيتشي وتومي يسافران من موطنهما لزيارة أولادهما وأحفادهما في طوكيو. يجدان هناك أن لدى أولادهما حياة مليئة بالأحداث، ويدركان أنهما لا ينتميان إلى هذا العالم، وحين يشرعان بالمغادرة، تمرض الجدة تومي وتموت. ومن أجل عنصر الدراما، نلحظ أن أفلام أوزو غالباً ما تتمحور حول حدث دنيوي رئيسي، وعادة إما يكون زفافاً وإما حالة وفاة. بيد أنها اللحظات التي تتخل هذه الأحداث هي التي تعد ذات الأهمية الأكبر، نوع من اللحظات التي تفتقر لها السيناريوهات التقليدية. لنقطف عنقوداً من حوار الفيلم: تسأل تومي زوجها شوكيشي (شوشو رايو): “أتساءل بأي جزء من طوكيو نحن الآن.” وحين يقول لها: “في ضاحية مدنية على ما أعتقد.” ترد عليه: “لا بد أنك محق، فقد قطعنا مسافة طويلة من المحطة.” إنها الدردشة المملة المماثلة التي يتوقع المرء سماعها من جديّه مهما كان مكانه في العالم.
إن تقدير أوزو لتلميحات الشخصيات الضمنية يعني أن الصمت قد يحمل أهمية أكبر مما يُقال بالفعل، فحين تشرح تومي: “مع ولادة كل طفل لي، كنت أدعو أن لا يبكر ليصبح مدمناً على الشراب،” فهذا يشير أن زوجها كان يعاني من الشرب حقاً، وهو شيء لا تتوقعه من شوكيتشي الصارم نوعاً ما. ويقدم أوزو فروق كبيرة في الشخصيات ببراعة خفية من الاختلافات بينهم؛ فابنة شوكيتشي واسمها شيغي تعمل على توضيب ثوب للحداد حين تزور والدتها المتوعكة قرابة نهاية الفيلم، في حين أن سلفتها نوريكو تأتي دون تحضيرها لشيء من هذا. وهو أمر يوضح الكثير عن السلوكيات المختلفة للشخصيات، دون أن تطغى واحدة منهما بحضورها على الأخرى.  
وراء بساطة الكتابة هناك بساطة في التحضير والتركيب والتي قد تبدو خاوية من الفن للعين غير الضليعة سينمائياً. عادة ما يضع أوزو كاميراته على مستوى عين الشخص الجالس على حصيرة التاتامي ويكاد لا يحرك إطارها، ويسجل التحركات والإيماءات المنسقة بعناية التي يقوم بها ممثليه. لاحظ كيف يجلس شوكيشي في الفيلم وفق زاوية مناسبة تجاه الكاميرا، من الجانب الأيمن المقابل لنا، بينما تجلس تومي على يساره وورائه بقليل دائماً. لكن حينما لا تجري الأمور بنفس الهدوء الذي يريدونه خلال رحلتهم، نرى أن شوكيشي وتومي يجلسان مقابل بعضهما وبشكل متوازي، وكأنهما يواسيان بعضهما. وبنفس الوقع، حين يقوم أولادهما بإرسالهما إلى منتجع صحي ضوضائي، حينها يشير أوزو أولاً بأن شوكيشي وتومي لا ينتميان لهذا المكان عبر لقطة متوسطة مسلطة على صندليهما المركونين خارج الباب.    
وبعد توطيد نمط الحياة التي تجمع بين شوكيشي وتومي بهذا الإحكام، فإن تقديم أوزو لموت هذه المرأة المسنة يحمل تأثيراً أعمق في المشاعر لأنه لا ينطوي على الميلودراما والتكلف المألوفين. وحين ينتهي الفيلم في المشهد الذي بدأ عنده، حيث يجلس شوكيشي على حصيرة التاتامي الخاصة به، وهو يروح عن نفسه جراء حرارة الصيف الشديدة، وحيداً هذه المرة، فهو يعتبر تقديماً مختلفاً للبقاء عن ما هو في فيلم (أورديت) للمخرج دراير. فالأخير استخدم البعث كاستعارة لإبراز معجزة الحياة نفسها، بينما يوضح أوزو معجزة حياة الإنسان عبر موت شخص آخر. ومع أن تومي قد توفيت فإن صوت محرك القارب في الميناء لا يزال موجوداً، كما هي صافرة القطار البعيدة والطنين الصارخ لحشرة السيكادا. أضف إلى حقيقة أن أولاد شوكيشي وتومي سيحلان محلهما وسيمران بالمصير ذاته يوماً ما. هذه هي الحياة.
وعبر هذا الدمج الرائع بين التفاصيل والكون، اللانهائي والمتناهي، فربما يفسر فيلم (قصة من طوكيو) – أكثر من أي شيء آخر – أن أوزو ليس أكثر المخرجين اليابانيين تعبيراً عن شعبه، بل هو أكثرهم إنسانيةً. 
IMDB | RT

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق