للمخرج التركي نوري بيلج جيلان، انتصاراته العديدة في المهرجانات العالمية، جعلته الاسم الأول في السينما التركية، ونجمها المفضل. فيلمه الأخير About Dry Grasses، تركيا - 2023، الذي جرى عرضه في مهرجان تورنتو، مؤخراً، يكشف عن أن النقاد بات لديهم ما يشكون منه.
لا تزال صور البرية الأناضولية الجميلة المغطاة بلحاف سميك من الثلوج، تفعل فعلها في بال من يتذكر أفلام هذا المخرج السابقة، مثل (وعلى الأخص) «ذات مرّة في الأناضول» (2011). أفلام نوري بيلج جيلان، كانت احتفاء بتلك الطبيعة، وفوقها ذلك الإنسان الذي يبحث، بموازاتها، عمّا لا يحققه. أفلامه في السنوات العشر الأولى، التي احتوت على عملين جيدين آخرين، هما: «طقوس» (Climates) و«مسافة» (Distant)، كانت وجدانية وتأمّلية.
لكن شيئاً ما، حدث قبل 5 سنوات، عندما قدّم هذا المخرج التركي البارز «شجرة الإجاص البري» (The Wild Pear Tree): لقد انتقل بكل اندفاعه إلى تغليب الحوار على الصورة، لدرجة أن الناتج انتقص من قيمة وجدوى تلك المشاهد بمفرداتها، ومعانيها الوجدانية والفكرية. النقلة، التي بدأت فعلياً بفيلم «نوم شتوي» (Winter Sleep) سنة 2014، كانت من أسلوب ينتمي إلى سينما التأمل، إلى آخر ينتمي إلى سينما الحوارات. أي من مدرسة تاركوفسكي، إلى مدرسة تشيخوف.
فيلمه الجديد هو من هذه التوليفة التي لا تعمل ضد ماضي جيلان فقط، بل ضد أهمية أن يتم التعبير عن أي موضوع أو حكاية بالصورة، وليس بالكلام. أمر رائع أن يجذبك فيلم من ثلاث ساعات، وثلث الساعة، ببصريّاته وجماليّاته وتأملاته، وبين أن تستمع (أو تقرأ ترجمة) لحوار مطوّل ومتشابك يفرض على البعض الاهتمام به، في المدّة المذكورة. هذه وحدها تطحن صبر الباحثين عن سينما، وليس عن فيلم. تتركهم بزاد قليل من الإعجاب.
قصّة أستاذ فنون اسمه سامت (دنيز شليغلو)، يعمل في مدرسة تقع في بلدة صغيرة. نراه يدرّس مادته لطلاب مهتمّين بالظاهر، على الأقل. أسلوبه في التعليم ليس نوعياً. هو نوع من الأساتذة الذين لا تودّ أن تراهم يعلّمون أولادك، لكونه يُظهر تفوّقه أكثر مما يبدي تفهّمه. موقف الفيلم منه مبهم على هذا النحو، ثم يزداد إبهاماً عندما تتقدم فتاة صغيرة اسمها سيفيم (إيس باشي) بشكوى للإدارة، تدّعي فيها أنه تحرّش بها جنسياً.
هذا يقلب الوضع، لأن المطروح الآن- وإلى حين- هو ما إذا كان الأستاذ مذنباً، أو بريئاً، وما هي الدوافع التي حدت بالفتاة لاتهامه، إذا ما كان بريئاً. يزداد الأمر تعقيداً باكتشاف رسالة غرامية في حقيبة الفتاة خلال بحث روتيني تقوم به إدارة المدرسة، من حين لآخر. لسبب غير مفهوم تسمح الإدارة لسامت بالاحتفاظ بالرسالة.
على جانبي هذا الوضع هناك شخصيات أخرى ترمي ثقلها على الموضوع، من بينها شريكه في المبيت الأستاذ كنعان (مصعب أكيشي)، الذي هو أصغر منه سنّاً، وأكثر وسامة، تتوجه إليه أستاذة في مدرسة أخرى تنشد لقاء سامت لكنها تتحوّل لمعجبة بكنعان، ما يترك انفعالاً غير محبب في نفسه. لكن ذلك الخيط العالق حول ما إذا كان الأستاذ مذنباً، أو ضحية، يبقى عالقاً لوقت أطول مما يجب، كذلك الحكاية بأسرها.
شخصية الأستاذة نوراي (مَرف دزدار) التي فقدت ساقها، وبذلك فقدت ثقتها السابقة بقراراتها العاطفية، هي الأكثر إثارة للاهتمام في نطاق محاولة الفيلم تطوير منحى العلاقات الإيجابية والسلبية بين شخصياته.
الممثلون والمخرج أثناء مشاركتهم في مهرجان «كان»
إذ يعتمد الفيلم على حواراته (رغم أن لديه ممثلين جيّدين بلا ريب)، يفقد الاهتمام المفترض بحكايته ومفارقاته تدريجياً، ويتركنا أمام تغييب آخر لجيلان الذي تعرّفنا إليه، لخاطر جيلان جديد يحوّل المشاهد إلى مباريات حوارية.
محمد رُضا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق