المنارة .. ديونيسيوس يُبعث من جديد !
تَذْكر الميثولوجيا الإغريقية طائر النورس بأنه تجسيدٌ للحورية الإلهية إينو والتي تُعرف عادةً بإسم لوكوتيا منذ أن أستوطنت البحر وصارت هدايةً لمن يتوه على سطحه .. تقول الأسطورة أن لوكوتيا أرضعت ديونيسيوس مما أثار غضب الإلهة هيرا فأصابتها بمسٍ من الجنون .. وظل ديونيسيوس بعدها يلعن حياتَه حتى صار رمزاً للمجون والعربدة والرغبة في التخلي عن كل ما يُحجِّم حريته ويسيطر على رغباتِه .. اشتهر ديونيسيوس في الأدبيات اليونانية بصناعة الخمر وتجرّعه والتمرد على كل الأحكام والطقوس الإلهية المُسبقة .. يحاول فيلم المنارة إعادة خلق تلك الأسطورة وإسقاطها على الجنس البشري فيقدم لنا محاورةً سينمائية بين ما يسعنا تسميته بسفير ديونيسيوس المعاصر " طوم " حارس إحدي المنارات النائية وبين وينسلو الشاب الذي يعمل تحت إمرة طوم .. ومن خلال تلك المحاورة تتبدّى لنا النفس البشرية بتناقضاتِها ورغبتها الأثيرة في التحرر من وطأة السلطة وبلوغ المعرفة المطلقة للكون .
يُجسد طوم الصورة البدائية للإنسان في أكثر أشكالها تمرداً وعجرفةً .. نجده يلبس قبعة القادة أغلب الوقت لإشعار أناه أن بيده السلطة الكاملة .. ينعت وينسلو بالكلب ويهينه حتى مع أدائه للمهام الموكل بها على الوجه الأمثل .. لا يَظهر في تصرفاته أيٌ من معالم الإنسانية أو الحضارية .. يستأثر بحقه الأوحد في بلوغ قمة المنارة دوناً عن وينسلو .. يؤمن طوم بالسحر والأساطير والخرافات التي تُظهره كشخصٍ أبله لا حق له في تقلّد مفاتيح السلطة بالمنارة .. يحاول الفيلم خلق هالة واضحة حول تلك المنارة بجعلها رمزاً لأسرار الكون أو العلم المُطلق الذي نحاول جميعاً الوصول إليه ظناً منا أنه المنجي الوحيد والمُخَلِّص لمشقة الحياة من على كاهلنا ؛ جاهلين أن أحياناً يكمن الهلاك في المعرفة الزائدة كحرارة الشمس التي أذابت أجنحة إيكاروس فهوى صريعاً .. على الجانب الآخر نجد وينسلو شاباً مُحافظاً لا يؤمن بالخرافات التي يقُصّها عليه قائده طوم بين الحين والآخر .. يرقب وينسلو تصرفات طوم محاولاً التسلل إلى أعلى المنارة لمعرفة ما يُخبّأ بداخلها لكن يمنعه طوم دائماً .. ومن هُنا يعبر وينسلو بنظامه وثباته وبالقيم التي يتمسك بها صورة الإنسان في شكلها المتحضِّر الواهن بثقل الحياة والمتألم في غموضها .. على نقيض شخصية طوم فوينلسو لا يتمرد مطلقاً بين يمضي في حياتِه بروتينية مصمتة حتى أنه قد ورث مهنة عامل الخشب عن أبيه دون إختيارٍ حقيقي منه .. يعتقد وينسلو أن عدم حياده عن الطريق الذي وجد نفسه فيه هو حلّه الوحيد لضمان السعادة ذلك قبل أن يجد نفسه محاصراً بقيودٍ لم يعد بمقدوره تحملها فيقرر التمرد والتخلي عن كل ما أفقده حريته !
إستناداً إلى الأسطورة تُعد البشرية سيميلي هي والدة ديونيسيوس والتي طلبت من الإله زيوس أن يتجسّد لها بصورته الألوهية ولما فعل إحترقت في الحال .. لكن ديونيسيوس بعدها تمكن من إعادة أمه إلى الحياة على قمة جبل الأوليمب .. وكأن النور الذي أحاط المنارة وكان طوم يتحدث إليه في بداية الأحداث هو تعبيرٌ عن الهيئة الإلهية التي يخاف أن تحرق وينسلو الغير فَطِن أن ما يرنو لمعرفته قد يكون لحظةَ نهايته .. هذه المُفارقة التي أودتْ بحياة وينسلو حين صعد المنارة ولم يجد سوى النور يعمي بصره .. لذا يمكن رؤية الفيلم بأكمله كمونولوج داخلي يدور في عقل شخصٍ واحد وهذا ما قاله طوم بشكلٍ مباشر في أحد المشاهد فضلاً عن كشف ماضي شخصية وينسلو والذي تبين من خلاله علاقة قديمة مع شخصٍ له نفس طِباع طوم المتخمة بالغريزة والبدائية .. مونولوج لشخصٍ يتمزق داخلياً بين رغبته في الخلاص من كل ما قد فُرض عليه وبين خوفه من أن يكون تحرره مخالفاً ليدٍ عُليا قد تزج به صوب الموت .. في أحد المشاهد يتحدث وينسلو بأنه يخاف الرب وربما ذلك يفسر خوفه المستمر من قائده بل وتوسله إليه في النهاية ألا يؤذيه ؛ فبالنسبة لوينسلو التمرد قد يكون مرادفاً لعقاب الإله .. مونولوج لعقلٍ يُشبه في خرابه تصدعات تلك الجزيرة وخوائها من المعنى .. في مشهد الإحتدام الذي دار بين الإثنين بدا وكأنه مناجاة نفسية بين أفكارنا وهي تتصارع وتُبريء نفسها مما حدث لنا وكأن الأفكار أصبحت شخوصاً تُلقي اللوم على بعضها ونحن قليلي الحيلة نعجز عن القرار .. وربّما ذلك يفسر صورة الفيلم بالأبيض والأسود وكأن الأحداث برمتها مجرد غلالة من الوهم في عقلٍ بشري يعاني .. عقلٌ خائف ومشتت .
في كتابه نشأة المأساة يتحدث نيتشه عن المفهوم الأبولوني والديونيسي .. يُفرد نيتشه المفهوم الأبولوني والذي يُحيله إلى أبوللو إله الشمس أنه النزعة إلى النظام والإعتدال والتناغم والإستقرار النفسي بينما يُشير المفهوم الديونيسي نسبة إلى إله الخمر ديونيسيوس إلى الفوضى الخلاقة والبدائية والغرائز .. يفرض نيتشه أن هناك صراع دائم بين المفهومين ينتج عنه نشأة الحضارة والأفكار والمعاني الإنسانية .. بل حتى في العقل البشري الواحد نظل حائرين مُنساقين وراء رغباتنا لفهم الكون بين إيماننا الغيبي ورغبتنا في التحرر .. بين قدراتنا المحدودة والأنا العُليا التي تخامر ذواتنا .. بين أبوللو القانع وديونسيوس العربيد .. بين وينسلو وطوم في شتات أزلي لمعرفة حقيقة تلك المنارة الكونية !
The lighthouse ( 2019 )
Dir. Robert Eggers
تَذْكر الميثولوجيا الإغريقية طائر النورس بأنه تجسيدٌ للحورية الإلهية إينو والتي تُعرف عادةً بإسم لوكوتيا منذ أن أستوطنت البحر وصارت هدايةً لمن يتوه على سطحه .. تقول الأسطورة أن لوكوتيا أرضعت ديونيسيوس مما أثار غضب الإلهة هيرا فأصابتها بمسٍ من الجنون .. وظل ديونيسيوس بعدها يلعن حياتَه حتى صار رمزاً للمجون والعربدة والرغبة في التخلي عن كل ما يُحجِّم حريته ويسيطر على رغباتِه .. اشتهر ديونيسيوس في الأدبيات اليونانية بصناعة الخمر وتجرّعه والتمرد على كل الأحكام والطقوس الإلهية المُسبقة .. يحاول فيلم المنارة إعادة خلق تلك الأسطورة وإسقاطها على الجنس البشري فيقدم لنا محاورةً سينمائية بين ما يسعنا تسميته بسفير ديونيسيوس المعاصر " طوم " حارس إحدي المنارات النائية وبين وينسلو الشاب الذي يعمل تحت إمرة طوم .. ومن خلال تلك المحاورة تتبدّى لنا النفس البشرية بتناقضاتِها ورغبتها الأثيرة في التحرر من وطأة السلطة وبلوغ المعرفة المطلقة للكون .
يُجسد طوم الصورة البدائية للإنسان في أكثر أشكالها تمرداً وعجرفةً .. نجده يلبس قبعة القادة أغلب الوقت لإشعار أناه أن بيده السلطة الكاملة .. ينعت وينسلو بالكلب ويهينه حتى مع أدائه للمهام الموكل بها على الوجه الأمثل .. لا يَظهر في تصرفاته أيٌ من معالم الإنسانية أو الحضارية .. يستأثر بحقه الأوحد في بلوغ قمة المنارة دوناً عن وينسلو .. يؤمن طوم بالسحر والأساطير والخرافات التي تُظهره كشخصٍ أبله لا حق له في تقلّد مفاتيح السلطة بالمنارة .. يحاول الفيلم خلق هالة واضحة حول تلك المنارة بجعلها رمزاً لأسرار الكون أو العلم المُطلق الذي نحاول جميعاً الوصول إليه ظناً منا أنه المنجي الوحيد والمُخَلِّص لمشقة الحياة من على كاهلنا ؛ جاهلين أن أحياناً يكمن الهلاك في المعرفة الزائدة كحرارة الشمس التي أذابت أجنحة إيكاروس فهوى صريعاً .. على الجانب الآخر نجد وينسلو شاباً مُحافظاً لا يؤمن بالخرافات التي يقُصّها عليه قائده طوم بين الحين والآخر .. يرقب وينسلو تصرفات طوم محاولاً التسلل إلى أعلى المنارة لمعرفة ما يُخبّأ بداخلها لكن يمنعه طوم دائماً .. ومن هُنا يعبر وينسلو بنظامه وثباته وبالقيم التي يتمسك بها صورة الإنسان في شكلها المتحضِّر الواهن بثقل الحياة والمتألم في غموضها .. على نقيض شخصية طوم فوينلسو لا يتمرد مطلقاً بين يمضي في حياتِه بروتينية مصمتة حتى أنه قد ورث مهنة عامل الخشب عن أبيه دون إختيارٍ حقيقي منه .. يعتقد وينسلو أن عدم حياده عن الطريق الذي وجد نفسه فيه هو حلّه الوحيد لضمان السعادة ذلك قبل أن يجد نفسه محاصراً بقيودٍ لم يعد بمقدوره تحملها فيقرر التمرد والتخلي عن كل ما أفقده حريته !
إستناداً إلى الأسطورة تُعد البشرية سيميلي هي والدة ديونيسيوس والتي طلبت من الإله زيوس أن يتجسّد لها بصورته الألوهية ولما فعل إحترقت في الحال .. لكن ديونيسيوس بعدها تمكن من إعادة أمه إلى الحياة على قمة جبل الأوليمب .. وكأن النور الذي أحاط المنارة وكان طوم يتحدث إليه في بداية الأحداث هو تعبيرٌ عن الهيئة الإلهية التي يخاف أن تحرق وينسلو الغير فَطِن أن ما يرنو لمعرفته قد يكون لحظةَ نهايته .. هذه المُفارقة التي أودتْ بحياة وينسلو حين صعد المنارة ولم يجد سوى النور يعمي بصره .. لذا يمكن رؤية الفيلم بأكمله كمونولوج داخلي يدور في عقل شخصٍ واحد وهذا ما قاله طوم بشكلٍ مباشر في أحد المشاهد فضلاً عن كشف ماضي شخصية وينسلو والذي تبين من خلاله علاقة قديمة مع شخصٍ له نفس طِباع طوم المتخمة بالغريزة والبدائية .. مونولوج لشخصٍ يتمزق داخلياً بين رغبته في الخلاص من كل ما قد فُرض عليه وبين خوفه من أن يكون تحرره مخالفاً ليدٍ عُليا قد تزج به صوب الموت .. في أحد المشاهد يتحدث وينسلو بأنه يخاف الرب وربما ذلك يفسر خوفه المستمر من قائده بل وتوسله إليه في النهاية ألا يؤذيه ؛ فبالنسبة لوينسلو التمرد قد يكون مرادفاً لعقاب الإله .. مونولوج لعقلٍ يُشبه في خرابه تصدعات تلك الجزيرة وخوائها من المعنى .. في مشهد الإحتدام الذي دار بين الإثنين بدا وكأنه مناجاة نفسية بين أفكارنا وهي تتصارع وتُبريء نفسها مما حدث لنا وكأن الأفكار أصبحت شخوصاً تُلقي اللوم على بعضها ونحن قليلي الحيلة نعجز عن القرار .. وربّما ذلك يفسر صورة الفيلم بالأبيض والأسود وكأن الأحداث برمتها مجرد غلالة من الوهم في عقلٍ بشري يعاني .. عقلٌ خائف ومشتت .
في كتابه نشأة المأساة يتحدث نيتشه عن المفهوم الأبولوني والديونيسي .. يُفرد نيتشه المفهوم الأبولوني والذي يُحيله إلى أبوللو إله الشمس أنه النزعة إلى النظام والإعتدال والتناغم والإستقرار النفسي بينما يُشير المفهوم الديونيسي نسبة إلى إله الخمر ديونيسيوس إلى الفوضى الخلاقة والبدائية والغرائز .. يفرض نيتشه أن هناك صراع دائم بين المفهومين ينتج عنه نشأة الحضارة والأفكار والمعاني الإنسانية .. بل حتى في العقل البشري الواحد نظل حائرين مُنساقين وراء رغباتنا لفهم الكون بين إيماننا الغيبي ورغبتنا في التحرر .. بين قدراتنا المحدودة والأنا العُليا التي تخامر ذواتنا .. بين أبوللو القانع وديونسيوس العربيد .. بين وينسلو وطوم في شتات أزلي لمعرفة حقيقة تلك المنارة الكونية !
The lighthouse ( 2019 )
Dir. Robert Eggers
Mohamad Ayman
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق