سنة 1970، في ميونخ، حضر المخرج الشاب وقتها راينر فيرنر فاسبيندر عرضًا لستة من آخر أفلام المخرج دوجلاس سيرك قبل اعتزاله، وهو مخرج ألماني هاجر لهوليوود بسبب النازية، واشتهر بأفلامه الميلودرامية الهوليوودية في خمسينات القرن الماضي، والتي كان يحتقرها النقاد وقت صدورها باعتبارها أفلامًا تجارية تلعب على العواطف، ومن أشهر أفلامه All That Heaven Allows و Imitation of Life، واللذان شاهدهما فاسبيندر في ذلك العرض.
حينها كان فاسبيندر قد حقق سمعة جيدة سينمائيًا بوصفه سينمائيًا متمردًا يحاول خلق لغة سينمائية جديدة، متأثرًا في ذلك بالمخرج الفرنسي جان لوك جوادر (أحد أقطاب الموجة الفرنسية الجديدة) والمسرح الجدلي لبريخت.
لكن رؤية فاسبيندر لأفلام سيرك ذلك اليوم كانت أشبه بصاعقة ضربته، وكتب حينها مقالًا عن تجربته تلك، وكان مما قاله فيه:
"هنالك شيء ما فعلًا يضربك في الصميم في ذلك العرض، إنك تفهم شيئًا عن العالم وما الذي يفعله فيك!"
"إنه (سيرك) يحب البشر ولا يحتقرهم كما نفعل نحن!"
"لقد وجدت شخصًا يصنع الفن بطريقة جعلتني أرى أنه يتحتم علي تغيير طريقة عملي!"
ونتيجة لما حدث ذلك اليوم قرر فاسبيندر هجر طريقته الأولى المتمردة في صنع الأفلام، وتبنى طريقة سيرك الميلودرامية، لأنه رأى فيها انشغالًا بالإنسان والحياة، أكثر منها انشغالًا بالتقنيات السينمائية، ولأنه رأى في كليشيهات الأفلام الميلودرامية والتواءاتها القائمة على الصدفة صدقًا أقرب لجوهر الحياة من الأفلام الواقعية! لتبدأ الحقبة الثانية من مسيرة فاسبيندر التي ابتدأها بفيلمه The Merchant of Four Seasons، وضمت أفضل أعماله، أعمال ستقوده للعالمية وتخليد اسمه وسط أبرز مخرجي ألمانيا بجوار أقطاب التعبيرية الألمانية فريتز لانج وفريدريك مورناو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق