علاقتنا بالأفلام متغيرة، أقول هذا بعد أن تغيرت علاقتي بالسينما والأفلام على مدار عدد قليل للغاية من السنين. أعتقد أنه من الصعب على شخص أن يداوم على (طقسًا ما) يتبعه في مشاهدته للأفلام.. أتحدث عن هؤلاء المحبون للسينما أمثالي، المولَعين المغرمين بالسينما، المهووسين، الذين يُشاهدون الأفلام كثيرًا. ولأننا نحب الأفلام، فإننا حريصون على تنظيم متى وأين وكيف نشاهدها.
أعتقد أن المعظم سيوافقني أن لكل شخص طقسًا مختلفًا يتبعه في عملية مشاهدته للأفلام. الأفلام شيء جميل، إن لم يكن الأروع في الحياة. البعض يحب القول أن الأفلام أنقذته بشكلٍ ما، البعض الآخر يحب الحديث لساعات عن تجاربهم الفيلمية المفضّلة، وكيف أن أفلامًا محددة جعلتهم يغيّرون مناظيرهم أو غيّروهم هُم جذريًا. وهناك آخرون لا يملكون مشكلة في القول أن الأفلام هي الشيء الوحيد الذي يُبقيه على قيد الحياة!
هذا الوَلَع بفن السينما عند معظم الناس -باختلاف وظائفهم التي يعملونها بالحياة- يجعلهم في حالة رغبة دائمة بمُشاهدة الأفلام، خاصةً الأفلام الجديدة الرائجة التي تصبح حديث الجميع فترةٍ ما. والأفلام الآن وعلى عكس زمان، أصبحت في متناول الجميع؛ فقديمًا قبل الإنترنت كنت لا بد عليك من انتظار ميعاد محدد يعرض فيه الفيلم على التلفزيون، أو تشتريه على الـ DVD، الآن يمكنك تحميل الأفلام -وأيُّ أفلام- في أي وقت. التساؤل الذي سنجده دائمًا في أذهاننا هو: كيف سنشاهد كل هذا الكم منها؟ هناك ترشيحات من الأصدقاء، وربما عدد هائل من الأفلام محفوظ على هارداتنا وحواسيبنا (مكتبة كاملة من الأفلام!)؛ أين الوقت لذلك؟ وإذا توفر الوقت: بماذا ستبدأ؟ ما الفيلم الذي سيؤجَّل؟
متى نشاهد الأفــلام؟
نتيجة أحاديثي المطوَّلة مع أصدقائي عن السينما والأفلام، وعن علاقتنا بتجربة المشاهدة، أُنير لي سؤالًا أصبحتُ أسأله على كل من أتحدث معه عن اأفلام: هل تنتظر الموود أو الحالة المزاجية المُناسبة لمشاهدة الفيلم؟ أم أنك تشاهد الأفلام في أي وقت، والأفلام هي التي تضعك بـ(الموود)؟
السؤال في ذهني معنيّ بتوقيت مُشاهدة الأفلام عند الأشخاص، لا بمعرفة (الحالة المزاجية/الموود) لهم، قبل أو بعد المشاهدة. فبالتأكيد أي فيلم قوي سيدخلك بالموود أو العالم الخاص به وسيستحوذ عليك بشكلٍ ما، إلا لو أنتَ نفسك شاهدت فيلمًا جيدًا في حالة نفسية/مزاجية غير ملائمة، هذا موضوع آخر.
اكتشفت أن هذا السؤال يتجه صوبًا نحو صميم علاقة الشخص بالسينما والأفلام؛ مثلًا، إن جاوب بأنه ينتظر الموود المناسب كي يشاهد الفيلم، هو غالبًا شخص يجد من مشاهدة الأفلام عونًا له في تخطي مشاكل حياته وظروف معيشته، أي يستخدم السينما كعلاج نفسي (Therapy)، أو أن تجربة المشاهدة -وببساطة- تمثل له أمر كبيرًا، ويشعر تجاه هذه الأفلام التي يحبها، أنها يجب أن تُشاهَد في أوقاتٍ معيّنة (لا أن يكون الأمر به تعسُّف بالتأكيد، لكنه على الأقل يفكر قليلًا: هل سأتواصل جيدًا مع هذا الفيلم الآن؟). وإذا اختار الإجابة الثانية؛ يشاهد الأفلام في أي وقت، فهو غالبًا إما شخص وصل لمرحلة متقدمة من المُشاهدة والتعود على الأفلام، يُشاهد ويُشاهد كثيرًا كحال مهاويس السينما أو الـ Cinephiles، أو هو شخص مشغولٌ دائمًا، لا يملك هذا الوقت الكبير حتى تتسنى له رفاهية انتظار مووده الخاص لهذا الفيلم أو ذاك.
الموضوع "نسبي" جدًا أيضًا لأنه وبخلاف كونه يختلف من شخص لآخر، هو يختلف عند الشخص الواحد؛ فمعظم ردود أفعال الناس ستكون "هناك أفلامًا يجب ألا تُشاهَد في أي وقت" حتى وإن كان هذا الشخص يشاهد أفلامًا كثيرة يوميًا. ليس كل الأفلام يمكن تطبيق الكلام عليها، وإلا سيأتي على هذا الشخص ليلة يُفسد فيها تجربة مشاهدة فيلم رائع بسبب عدم اختياره للتوقيت أو المكان المناسبان، وما أكثر المرات التي حصل هذا الأمر معي.
هل يمكن معرفة الـ"موود" الحقيقي للفيلم أصلًا قبل مشاهدته؟
وهنا تكمن المشكلة، فإن اعتبرها أن الشخص ينتظر الـ"موود" ليشاهِد الفيلم، أو أن أفلام محددة لا يرغب بمُشاهدتها إلا حين يكون في حالة مزاجيّة متوافقة مع حالة الفيلم؛ إلى أي مدى يمكن على الشخص معرفة الموود الحقيقي لهذه الأفلام التي سيقرر مشاهدتها؟ وعلى أي أساس سيختار؟ صحيح أن الإعلانات الدعائية مفترضًا أنها تقول الكثير عن الفيلم، لكننا لسنا جميعًا هواة مشاهدة الإعلانات. أمن الموسيقى؟ لا يمكن الوثوق في الموسيقى! أمن صديق تثق في رأيه مثلًا يخبرك بحالته الشعورية التي أصابته عقب انتهائه من الفيلم؟ ممكن، لكن الموضوع غير دقيق أيضًا لإمكانية أن تكون القصة لمسته هو ولن تفعل معك بذات الكيفية.
ماذا أيضًا؟.. الكتابات عن الفيلم؟ لا نود حرق الأحداث علينا! الانطباعات القصيرة؟ مرتبطة بحالة الشخص بعد خروجه من الفيلم وربما تتغيّر!! الأمر سيصبح معقد شيئًا فشيئًا ولن تجد إلا حلًا من اثنين؛ إما أن تشاهد أفلام مخرج بعينه تروق لك أفلامه وموودها، وإما أن تختار "أفلام الچونر" التي تُكرر صفات وتفصيلات معيّنة بكل أفلامها. أمثال: الفيلم-نوار، الرعب، الرومانتيك كوميدي، الجريمة.. إلخ.
وقت المُشاهدة (قد يكون) أهم من الفيلم المختار مشاهدته..
جميعنا مرَّ علينا هذا الموقف الذي ارتبط بشدة مُشاهدة فيلم ما، بظروف مشاهدته؛ تعود من يوم مرهق عملت فيه منذ الصباح الباكر مثلًا، تقرر مُشاهدة فيلم، تجده أبهرك لأن شخصيته البطلة تعمل ذات تخصص عملك في دولة من قارة أخرى، لتبدأ الأفكار في رأسك بالظهور.. تعقِد مقارنات بين شكل حياتك وشكل يومك هذا بالعمل، وشكلها في البلد الثانية بالفيلم. . . . يومًا مكتئبًا للغاية تمرّ به، تزداد الطينة بلّة عندما تشعر شعورًا سيئًا وأنتَ راجع لبيتك من شدة انتشار القمامة التي تراها في كل ركن من كل شارع، فتتمنى الموت! لكنك تُهدّأ نفسك بعمل كوب قهوة ساخن وتشاهد فيلمًا عن نهاية البشرية على كوكب الأرض (بوست أبوكوليبتيك)، لتجده واحد من أفضل الأفلام التي شاهدتها! والسبب أن "وقت المشاهدة" لم يكن ليأتي أفضل من هذا!. . . . تركتكَ حبيبتك مؤخرًا مثلًا لتجد نفسك هائمًا على الأفلام تلتهمها كالحلوى، تصتدم بفيلم عنوانه 'Blue Valentine' كنت تتمنى عدم مُشاهدته، فقد قلب حياتك جحيمًا وجعلك تسترجع كل ذكرياتك المؤلمة مع صديقتك! مثلًا، أفلام الخيال العلمي والفانتازيا يمكن أن تكون خيارًا مثاليًا لشخص يريد الهروب من الواقع. مَن منّا لم يأتي عليه على الأقل مرةً واحدةً كان يذاكر لامتحاناته وشعر بحالة ضيق وإزدراء شديدة، فرَمَى الكتاب بعيدًا يقول بينما لا يزال في الهواء "اللعنة عليك!"، وقرر مشاهدة فيلم؟ لا أعلم حال الآخرين، لكن بالنسبة لي أيّ فيلم سأشاهده في هذه الحالة سأستمتع به جدًا، حتى لو كان الفيلم سيئًا! الأمر يتعلق بفكرة أن وقت المذاكرة هذا "ليس من المفترض مُشاهدة الأفلام فيه" أكثر من أي شيء آخر.
لذا، إن وجدت نفسك في حالة مزاجية متطابقة مع الفيلم الذي شاهدته، فإعلم أنك محظوظ فعلًا لأن الأمر لا يحدث كثيرًا.
ماذا عن الأفلام نفسها؟
عندما حاولت البحث عن أفلامًا ناقشت أو عرضت موضوع الـ"طقس" هذا، لم أجد الكثير. معظم ما وجدته هو أفلام تتحدث عن صناعة السينما ذاتها، أو فن السينما بوجه عام.
تذكرتُ فيلم بيرناردو بيرتولوتشي (The Dreamers) أن معظم أحداثه تحركها هَوَس الشخصيات بالأفلام، والتأثير -السلبي- للأفلام على حياتهم. فكانت السينما هي المكان الذي اِلتَقى أمامه الأبطال للمرة الأولى، والفيلم يعتبر تحية لعدد كبير من الأفلام.
وقابلتُ فيلمًا تسجيليًا بعنوان (The Wolfpack) كنت أعتقد أنه سيكون شيئًا خرافيًا فيما يتعلق بعلاقة شخصيات الحياة الحقيقية بالأفلام، وتأثير الأفلام عليها. "ذا وولفباك" يحكي عن مجموعة أخوَة من أبٍ لاتيني وأمٍ أمريكية، موضوع لهم ما يشبه النظام أو القانون من الأب ألا يخرج أحدًا منهم على الإطلاق للشارع، وكل شيء يتعلموه منزليًا، إذ يحاول الأب قدر الإمكان إبعاد أبناءه عن المجتمع وعدم الاحتكاك بهم حتى لا تتغيّر هويتهم وما شابه. المثير في قصتهم بالنسبة لي أن هؤلاء الأبناء تربوا منذ الصغر على مُشاهدة الأفلام، وأصبَحَت الأفلام هي كل ما يعرفونه عن العالم. تخيّل أن تكون محبوسًا في عمارة طويلة عشرون سنةً مثلًا، لا ترى العالم الخارجي إلا من خلال النوافذ، ومن مسافة بعيدة، ووقعت في غرام الأفلام بشكل أو بآخر، أو ببساطة تُشاهِد الأفلام -على التلفاز والـ DVD- لأنك إن لم تفعل سيقتلك الملل. كان الفيلم حُلوًا، لم أكرهه، لكني تمنيتُ أن يصبّ كل وقته على جزئية (الأفلام) وتأثيرها على الابناء، خاصةً أن هناك مشاهد رائعة لتقليد هؤلاء الصبية لفيلميّ تارنتينو (Reservoir Dogs) و(Pulp Fiction) ومشاهد أخرى يتحادثون فيها عن الأفلام المفضّلة. لكن الفيلم لم يكن عن الأفلام فقط كما تبيّن لي من إعلانه. لم يُشبِعني صحيح، لكنه يظل فيلمًا جميلًا يملك قصة مثيرة للاهتمام.
رشح لي صديقًا مقربًا فيلم تايواني بعنوان (Goodbye, Dragon Inn)، أخبرني أن كامل أحداثه تدور في دار سينما، والقصة تحكي عن العرض الأخير لفيلم كلاسيكي هام يتناساه الجميع، لكن قلة تحضر كنوع من التحية لهذا فيلم. لم أشاهِد الفيلم بعد -حتى كتابة هذه الكلمات-، لكن قصته تبدو من النوع التي ستروقني كثيرًا.
قليلًا عني: التفاصيل الصغيرة مهمة
ربما من الخطأ تطبيق هذا الموضوع بشكل عام جمعي، كونه مرتبط بالتجربة الفردية للشخص حتى وإن تقابَلَتْ عدة مشتركات بينه وبين الآخر. لذا سأتحدث عن ما أعرفه عن نفسي بدلًا من الجميع؛ التفاصيل أساسية عندي، و(تجربة المشاهدة) -بكل تفصيلاتها- تكاد تكون بذات أهمية ما في داخل الفيلم. مثلًا، منذ قرابة الأسبوع تذكرت فيلمًا جميلًا أحببته كثيرًا، ما تذكرته منه ليس الأحداث ولا حالتي وقتها ولا أي شيء من هذه الأشياء التي قد تفكّرون بها، أول ما تذكرته كان مكالمةً تلفونيةً استوقفتني أثناء مُشاهدتي الفيلم، أتذكر جيدًا عن ماذا كان صديقي يسألني وبماذا أجبته، رغم أنها مكالمة قصيرة للغاية. الأشخاص مثلًا، الأماكن، ميعاد مشاهدة الفيلم؛ أهو في الصيف، أم الشتاء؟ أفي بداية الربيع أم نهاية الخريف؟.. كل هذه التفاصيل هامة عندي في تذكُّري الفيلم. لا يمكن هُنا فصل الحالة الشعورية للفرد عن "الفيلم"، الذي هو أيضًا بمثابة هالة من المشاعر.
أحد الأشياء التي لا أنساها أبدًا مثلًا هي تجربة مشاهدة واحد من الأفلام الأمريكية المستقلة لمخرج لم يصنع أفلامًا طويلة غير هذا الفيلم. الفيلم يدعى (Hesher) وهو إنتاج عام ۲۰۱۰، وبأحد مشاهده تأكل "ناتالي بورتمان" الآيس كريم مع "تي چي" (صبي بعمر الثالثة عشر تقريبًا). كانا يتمشيان بالشارع وقت الظهيرة، وحالتهم -بالنسبة لموقع المشهد من دراما الفيلم- مزرية كليًا، أو كما يحب الأمريكيون القول "Complete Shit". شاهدت الفيلم صباحًا على قناة «فوكس موڤيز» على التلفاز، وقررت في المساء النزول لمحل الآيس كريم القريب من بيتنا خصيصًا لكي آكل كما بالفيلم. اشتريتُ الآيس كريم وجلست على رصيف الشارع أراقب السيارات، وتخيّلت أن "ناتالي" تجالسني، نأكل ونستمتع بالآيس كريم سويًا!
التفاصيل الصغيرة الأخرى تشمل المكان، المكان أهم الأشياء التي لا تنفصل عن تجربة مُشاهدة الفيلم عند أي شخص أظن. والمكان بالنسبة لي لا يشمل (البيت) أو (السينما) مثلًا، وإنما المكان المحدد والزاوية بالضبط التي جلستُ وشاهدت فيها الفيلم، لدرجة أني حتى أحيانًا أتذكر الملابس التي ارتديتها، فكنت أقول لأختي مثلًا: «هذا التي شيرت أحبه كثيرًا لأني ذهبت لفيلم كذا به، وهو فيلم له مكانة خاصة عندي».
أحب الأفلام، وأحب حينما يتحدث شخص عن الفيلم يتحدث مع تجربة مشاهدته: متى رآه، وفي أي ظرف. إذا كان بالسينما أريد أن أعرف أجواء السينما وتفاصيل المكان، الفشار والناس، والمغامرة كلها. وإذا كان بالبيت، أود أن أعلم أكان يشاهد الفيلم على الحاسوب في الليل بينما الكل نيام، أم على التلفزيون، في الصباح، بينما أشعة الشمس تنير الصالة وتُدفئ الأجواء.
الوسيط المستخدَم
الوسيط يمكن أن يكون ذو قدر كبير من الأهمية في بعض الحالات. أتذكر مقولة "مارتن سكورسيزي" في إحدى المقابلات معه أن فيلمًا كـ(Lawrence of Arabia) إذا شوهِدَ على شاشة الموبايل لن يكون هو Lawrence of Arabia، بل سيكون فيلمًا آخر؛ لأن هذا الفيلم لا يُشاهَد إلا على شاشة كبيرة.
البعض لا يجد مشكلة في مشاهدة الأفلام على "الموبايل" أو "التابلِت". في حين أن هناك آخرون يذهبون لدار العرض لمشاهدة الأفلام حتى وإن توافرت على الإنترنت، لأنه كما قال سكورسيزي، الفيلم لا يكون نفس الفيلم عندما تشاهده على شاشة سينما. معظم الناس الآن يشاهدون الأفلام على الـ"لاب توب" ببيوتِهم، في حين أن دار العرض السينمائية لها طعم خاص، وتجربة مختلفة تمامًا عنها في البيت. نوادي السينما ينطبق عليها نفس الحال؛ المشاهدة الجماعية للفيلم تعطي طابعًا حميميًا أن هناك أشخاص كثيرون مهتمون بهذا الفيلم الواحد، ويتشاركون سويًا الشعور الذي يمنحه الفيلم. بينما في البيت ورغم أنك يمكن أن تأخذ راحتك أكثر في كل شيء (في البكاء تحديدًا!) -خاصةً إن كنت شخصًا منطويًا "بيتوتيًا"- فإن المُشاهدة الفردية تدعو لاعتبار الشاشة الصغيرة بمثابة منفذ على عوالم آخرى، وفكرة الهروب من الواقع في ظني تكون في قمتها. شخصيًا، لا يمكن عليّ تخيّل مشاهدة أفلام "مارڤِل" الكبيرة مثلًا على شيء آخر غير شاشة "آيماكس" عملاقة. وهكذا، حسب الشخص وحسب طبيعة الفيلم.
المهرجانات شيء آخر
دائمًا ما كنت أفكّر كيف يمكن لنقاد مهرجانات السينما الذين يُشاهدون ويُقيّمون مجموعة من الأفلام، حتى يفوز فيلم بالسيناريو وآخر بالإخراج وغيرها من جوائز، كيف لهم مشاهدة قدرًا هائلًا من الأفلام في وقتًا قليلًا، وإعطاء تقييم منضبط لكل فيلم؟! بعض الأفلام تستلزم أن تراها في حالة معينة وأن تسرَح أو تتماهى معها لأنها تخاطب الشعور. أقرب الأفلام في ذهني الآن فيلم ألفونسو كوارون الجديد (Roma)، لا أتخيّل شخص في عُجالة من أمره مثلًا ويُشاهد هذا الفيلم! أفلام "تيرانس ماليك" أيضًا ينطبق عليها نفس الكلام.
في حالة المُشاهدون الجيّدون، الذين ينهَمون على الأفلام، تبرز فكرة هنا في مهرجانات السينما. من المعروف أن المهرجانات تنظم عروضها في شكل أفلام متتالية تُعرَض على مدار عدد من الأيام المتتابعة. في ظني الأفلام الجيدة حقًا هي التي تستطيع الاستحواذ عليك في حالات كهذه. شاهدتُ عما قبل فيلمًا تسجيليًا بعنوان (Stranger In Paradise) وقد شاهدته في منتصف يوم ملئ بالمشاهدات لمجموعة أفلام مختلفة طويلة وقصيرة، ورغم أن رأسي كان بالفعل ملئ بالأفكار من كثرة الأفلام التي شاهدتها على مدار الأيام السابقة، وبهذا اليوم بالتحديد، إلا أن الفيلم جذبني بشدة طوال مدته ومنذ مشهده الافتتاحي، وكان من الصعب عليّ إزاحة نظري عنه لحظةً واحدة. هذه هي الأفلام الجيدة فعلًا التي تستطيع فرض الموود الخاص بها وإن كنتَ في وقت غير مناسب.
ختامًا
الموضوع إذًا يتوقف على طبيعة الشخص، ستجد شخصًا يريد على أيُّ فيلمٍ يشاهده تحقيق المتعة له، سواءً متعة بصرية أو قصصية، ستجده يُغلِق الفيلم بعد عشر دقائق منه إن لم يجذبه. وستجد شخص آخر "يحترم الفيلم" -أيُّ فيلم- وسيُكمله ما إن بَدَأ مشاهدته، ستجده يفكّر بشكل أوسَع أن هذا الفيلم قد يكون استغرق من صانعه سنينٍ طويلة من حياته، ليتمكّن أن تأتي هذه اللحظة الآنية التي أشاهده فيها، ولعلّ توجه وغرض الفيلم يتطلب قليل من الوقت لهضم نوعه، مثلًا. يجب أن نفهم الأفلام أيضًا إن كنا نشاهدها باستمرار وأن نتسم بالبال الطويل قليلًا. الأفلام السياسية والاستراتيجية مثلًا لا أحبها إطلاقًا، لكن هذا لا يعني أني لن أشاهد أفلامًا عنها!
الأفلام جميلة، والذكريات المرتبطة بالأفلام أجمل. الأفلام لها قدرة على السحر والتأثير، وعلى إخبارنا شكل العالَم من حولنا، وأشياء كثيرة لا تُحصَى.
لكن يبقى دائمًا وأبدًا هذا الإحساس الجمعي على أي شخص يقرر أن يشاهد فيلمًا: يتمنى فيه أن يكون هذا الفيلم الذي سيُقبل عليه للتو، فيلمًا رائعًا وربما عظيمًا، فيلمًا سيدخله في دوّامات فكرية عنيفة وسيقلب كيانه. كلنا هذا الشخص الذي ما أن تبدأ الموسيقى الأولى أو التتر الأول بالظهور في الفيلم، يحلم.. يتمنى أن يكون الفيلم هو هذا الفيلم الذي يتمناه في خياله، يتمنى لو أن الحياة ستعطي له قُبلة، وستضربه في صميم مشاعره.
الفيلم سيبدأ، التترات انتهت، الموسيقى تستعِد، الشاشة على وشك الظهور.. صدرُ المُشاهد ممتلئ بالهواء، يأخذ نَفَسًا مُطوّلًا، قلبه يخفق، لم يحصل شيء بعد، لكنه يجد نفسه سعيدًا للغاية، فهو يحب الأفلام. .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق