المصدر: "النهار"
كان وليامز المولود في شيكاغو، من قماشة الأشخاص الذين يدخلون القلب بلا استئذان. خفة دمه زحفت الينا زحفاً. قبل أن يكون ممثلاً ذا قدرات كوميدية عالية، كان وليامز هذا الذي يسمّيه الأميركيون بـ"شاب الجوار"، أو بمعنى آخر، هذا الذي نلتقيه كلّ يوم ونحن ذاهبون الى العمل أو عائدون منه. رجلٌ لكل زمان ومكان: في شكله شيء مألوف، في نظرته الصديق الذي نرّبت كتفه، في كيانه رجل لا يتوقف عن الحركة، أو ببساطة، لا يتوقف عن العيش. "الرقة"، هي تلك الصفة التي كانت تميز وليامز في فترة سينمائية هيمن عليها الوحوش والقتلة وأبطال ماكيافيليون لا يقيمون للأخلاق وزناً. كان يهرّج أحياناً. ومَن مِن الكوميديين لم يذعن الى التهريج؟ جاك نيكلسون فعلها أيضاً. ولكن مهما يكن، ظلّ وليامز متماسكاً، قابلاً للتصديق، نظيفاً كحبة لؤلؤ. نصفّق له ابتهاجاً لا واجباً!
كان وليامز كتلة من الديناميت في افلامه، قابلة للتفجير في كل لحظة. كان نموذجاً للديناميكية، سواء اضطلع بدور الاستاذ المتمرد الذي يقف على طاولة الصفّ، أو أطلّ من خلف الميكروفون صارخاً بكل ما أوتي من صوت، "غود مورنينغ فيتنام"، أو رمى على كتفيه برنس الطبيب لمعالجة المرضى في مستشفى الأمراض العقلية، أو جسّد بروفسوراً فقد عقله بعد موت زوجته، أو أبا عائلة مطلقاً يضطر للتنكر في زيّ مربية للبقاء بالقرب من أولاده، أو روبوتاً يبلور حساً انسانياً، أو كائناً فضائياً يقع في غرام فتاة، أو قاتلاً متسلسلاً، أو أكاديمياً ("غود ويل هانتينغ")، وهو الدور الذي نال عنه أوسكاره الوحيد في فئة دور ثانوي، على الرغم من ترشحه له لثلاث مرات.
كان مقنعاً على الدوام، يسرق الفيلم من مخرجه، من دون أن ينقلب على الفيلم نفسه، وكان من الصعب جداً إنقاذ الشريط من مخالبه. لذا، تكاد تنعدم في مساره، الأفلام المهمة سينمائياً حيث كان لوليامز دور البطولة. كان باباي عند روبرت ألتمان، وجاك عند فرنسيس كوبولا، وبيتر بان عند ستيفن سبيلبرغ. مع قليل من المبالغة، يمكن القول إننا، في كلّ مرة من هذه المرات، لم نجلس قبالة فيلم لألتمان أو لكوبولا او لسبيلبرغ، بل قبالة باباي، أو جاك، أو بيتر بان. كانت هذه أهميته وحدوده في آن واحد، وهذا ما منعه على الأرجح من خوض مغامرة أفلام كبيرة. فموهبته كانت تستحق أكثر من سلسلة الأفلام التجارية التي بدأ يجرجرها خلفه، ولا سيما منذ أواسط سنوات الألفين. هكذا دائماً مصير الممثل الطاغي الذي لا يذوب في الفيلم. هذا ما عانى منه أيضاً، سابقاً، بيتر سيلرز أو لوي دو فونيس، اذ جاءت مسيرتهما السينمائية مملوءة بأدوار تصمد امام امتحان الزمن، ولكن من خلال أفلام عادية أو شبه عادية، او على الأقل من خلال أعمال لا ترتقي الى قيمتهما.
أربعة عقود هي الفترة التي وقف خلالها وليامز قبالة الكاميرا، وعلى خشبة المسرح، وتحت بروجكتورات قنوات التلفزة، مقلّداً، هازئاً، مداوياً الألم بالضحكة البسيطة غير اللئيمة والمتنكرة، مثيراً البهجة في قلوب الأميركيين أولاً، قبل أن "يمتد" وجهاً كوميدياً لطيفاً الى أنحاء العالم كافة مع "صباح الخير فيتنام" (1987). متخرج في مدرسة "جوليارد" الراقية للفنّ التمثيلي، بدأ في التلفزيون أولاً منتصف السبعينات مع "هابي دايز"، ولفت الأنظار في مسلسل "مورك وميندي"، ونال عنه واحدة من جوائز الـ"غولدن غلوب" الأربع التي أسندت اليه طوال حياته. كان يجيد الوقوف في منتصف الطريق بين الفرح والكآبة، وعرف كيف يحافظ على هذا التوازن بين الأحاسيس المتضاربة الموزعة على جبهات عدة. مع هذا، لم يكن من مدرسة "التراجيكوميديا" الايطالية، بل كان أميركياً من اعماقه، يستخدم ليس فقط الصوت لتشكيل ملامح الشخصية بل الجسد أيضاً. كان جسده لغة بديلة يلجأ اليها عندما تصل الأدوات الاخرى الى حدودها الاقصى. لم يسقط البتة في السوقية، كمارتن لورنس أو ادي مورفي، وآخرين. ظلّ محافظاً على هذا التوازن الذي بدا السر خلف نجاحه وتفوقه. عمل كثيراً، أحياناً بإيقاع جنوني. لم يقاوم الكحول والمخدرات. غلبه الاحباط.
عندما سنتذكره بعد سنين طويلة، ستبقى هناك في ذاكرتنا أدوار له تتقدم على غيرها. ولا عجب أن يكون دور الاستاذ كيتينغ في "دائرة الشعراء الغائبين" (1989) للمخرج الأوسترالي القدير بيتر وير، واحداً من هذه الأدوار، لأنه يبقى الأكثر تعبيراً عن الهوة التي بين الممثل والدور وعن الفرق بين الشاشة المكشوفة أمام أعين المشاهدين والجدران المغلقة. ففي هذه الرائعة التي صارت من كلاسيكيات السينما وشكلّت مرجعاً للتمرد والعصيان في وجه القيم التقليدية، علّم كيتينغ للتلامذة في صفّه كيفية التعامل مع الحياة وشؤونها مستعيناً بمبدأ ثوري يخرج عن نهج الأكاديمية. كان يجهل آنذاك أنه سيكون الناطق باسم جيل كامل من المراهقين. أسس الفيلم لعقلية جديدة قوامها عدم الاستسلام، وترك خلفه شعار "كارب دييم"، عبارة باللاتينية تعني حرفياً: "اقطف النهار هذا من دون أن تنشغل بيوم غد". فعلاً، ليلة الاثنين، قطف وليامز نهاره من دون أن ينشغل بيوم غد. وكان نهاره الأخير!
كان وليامز كتلة من الديناميت في افلامه، قابلة للتفجير في كل لحظة. كان نموذجاً للديناميكية، سواء اضطلع بدور الاستاذ المتمرد الذي يقف على طاولة الصفّ، أو أطلّ من خلف الميكروفون صارخاً بكل ما أوتي من صوت، "غود مورنينغ فيتنام"، أو رمى على كتفيه برنس الطبيب لمعالجة المرضى في مستشفى الأمراض العقلية، أو جسّد بروفسوراً فقد عقله بعد موت زوجته، أو أبا عائلة مطلقاً يضطر للتنكر في زيّ مربية للبقاء بالقرب من أولاده، أو روبوتاً يبلور حساً انسانياً، أو كائناً فضائياً يقع في غرام فتاة، أو قاتلاً متسلسلاً، أو أكاديمياً ("غود ويل هانتينغ")، وهو الدور الذي نال عنه أوسكاره الوحيد في فئة دور ثانوي، على الرغم من ترشحه له لثلاث مرات.
كان مقنعاً على الدوام، يسرق الفيلم من مخرجه، من دون أن ينقلب على الفيلم نفسه، وكان من الصعب جداً إنقاذ الشريط من مخالبه. لذا، تكاد تنعدم في مساره، الأفلام المهمة سينمائياً حيث كان لوليامز دور البطولة. كان باباي عند روبرت ألتمان، وجاك عند فرنسيس كوبولا، وبيتر بان عند ستيفن سبيلبرغ. مع قليل من المبالغة، يمكن القول إننا، في كلّ مرة من هذه المرات، لم نجلس قبالة فيلم لألتمان أو لكوبولا او لسبيلبرغ، بل قبالة باباي، أو جاك، أو بيتر بان. كانت هذه أهميته وحدوده في آن واحد، وهذا ما منعه على الأرجح من خوض مغامرة أفلام كبيرة. فموهبته كانت تستحق أكثر من سلسلة الأفلام التجارية التي بدأ يجرجرها خلفه، ولا سيما منذ أواسط سنوات الألفين. هكذا دائماً مصير الممثل الطاغي الذي لا يذوب في الفيلم. هذا ما عانى منه أيضاً، سابقاً، بيتر سيلرز أو لوي دو فونيس، اذ جاءت مسيرتهما السينمائية مملوءة بأدوار تصمد امام امتحان الزمن، ولكن من خلال أفلام عادية أو شبه عادية، او على الأقل من خلال أعمال لا ترتقي الى قيمتهما.
أربعة عقود هي الفترة التي وقف خلالها وليامز قبالة الكاميرا، وعلى خشبة المسرح، وتحت بروجكتورات قنوات التلفزة، مقلّداً، هازئاً، مداوياً الألم بالضحكة البسيطة غير اللئيمة والمتنكرة، مثيراً البهجة في قلوب الأميركيين أولاً، قبل أن "يمتد" وجهاً كوميدياً لطيفاً الى أنحاء العالم كافة مع "صباح الخير فيتنام" (1987). متخرج في مدرسة "جوليارد" الراقية للفنّ التمثيلي، بدأ في التلفزيون أولاً منتصف السبعينات مع "هابي دايز"، ولفت الأنظار في مسلسل "مورك وميندي"، ونال عنه واحدة من جوائز الـ"غولدن غلوب" الأربع التي أسندت اليه طوال حياته. كان يجيد الوقوف في منتصف الطريق بين الفرح والكآبة، وعرف كيف يحافظ على هذا التوازن بين الأحاسيس المتضاربة الموزعة على جبهات عدة. مع هذا، لم يكن من مدرسة "التراجيكوميديا" الايطالية، بل كان أميركياً من اعماقه، يستخدم ليس فقط الصوت لتشكيل ملامح الشخصية بل الجسد أيضاً. كان جسده لغة بديلة يلجأ اليها عندما تصل الأدوات الاخرى الى حدودها الاقصى. لم يسقط البتة في السوقية، كمارتن لورنس أو ادي مورفي، وآخرين. ظلّ محافظاً على هذا التوازن الذي بدا السر خلف نجاحه وتفوقه. عمل كثيراً، أحياناً بإيقاع جنوني. لم يقاوم الكحول والمخدرات. غلبه الاحباط.
عندما سنتذكره بعد سنين طويلة، ستبقى هناك في ذاكرتنا أدوار له تتقدم على غيرها. ولا عجب أن يكون دور الاستاذ كيتينغ في "دائرة الشعراء الغائبين" (1989) للمخرج الأوسترالي القدير بيتر وير، واحداً من هذه الأدوار، لأنه يبقى الأكثر تعبيراً عن الهوة التي بين الممثل والدور وعن الفرق بين الشاشة المكشوفة أمام أعين المشاهدين والجدران المغلقة. ففي هذه الرائعة التي صارت من كلاسيكيات السينما وشكلّت مرجعاً للتمرد والعصيان في وجه القيم التقليدية، علّم كيتينغ للتلامذة في صفّه كيفية التعامل مع الحياة وشؤونها مستعيناً بمبدأ ثوري يخرج عن نهج الأكاديمية. كان يجهل آنذاك أنه سيكون الناطق باسم جيل كامل من المراهقين. أسس الفيلم لعقلية جديدة قوامها عدم الاستسلام، وترك خلفه شعار "كارب دييم"، عبارة باللاتينية تعني حرفياً: "اقطف النهار هذا من دون أن تنشغل بيوم غد". فعلاً، ليلة الاثنين، قطف وليامز نهاره من دون أن ينشغل بيوم غد. وكان نهاره الأخير!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق